· 

اذا كان الادب بمختلف أنواعه( القصة، الشعر، المسرح، السينما، الرواية، النثر ) يفتقد الى الذات و الموقف فلا يمكن اعتباره تعبيرا حقيقيا عن الطبيعة البشرية و تناقضاتها و صراعها مع الوجود.

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشظى فيه المعاني، يبدو الأدب ــ في كثير من تجلياته المعاصرة ــ وقد فقد صوته الداخلي، وانفصل عن جذوره العميقة في التجربة البشرية. لم يعد الأدب، كما كان في الماضي، صرخة وجود، أو محاولة لفهم الإنسان في قلقه، وهشاشته، وتمرده؛ بل تحول في أحيان كثيرة إلى خطاب محايد، بارد، تجريدي، أو استعراضي، يفتقد إلى الذات، وإلى الموقف.

إن سؤال الذات في الأدب ليس سؤالًا بسيطًا. لقد كان محورًا جوهريًا في فكر جان بول سارتر، الذي رأى في الكتابة التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا، وفي الكاتب ضميرًا للعصر، لا مجرد حاويًا للّغة أو راويًا للوقائع. في نصه الشهير « ما الأدب؟ » (Qu’est-ce que la littérature?)، يشدد سارتر على أن « الكاتب مسؤول عن العالم »، وأن الأدب بلا موقف هو أدب بلا معنى.

وفي السياق نفسه، يؤكد ألبير كامو أن الأدب ليس ترفًا، بل « فعل مقاومة ». فالمثقف ــ كما يقول في خطاب استلامه جائزة نوبل ــ يجب أن « يوحد بين وعيه بعالم الظلم، وبين مسؤوليته في تغييره ». ومن هذا المنظور، فإن الأدب الذي لا يعبر عن التمزق الداخلي للذات، وعن صراعها مع الوجود، هو أدب فقد جوهره.

أما ميخائيل باختين، فقد بيّن في تحليلاته للخطاب الروائي أن قوة الأدب تكمن في تعدّد الأصوات والصراعات، لا في التنميط أو السرد المسطح. فالخطاب الأدبي يجب أن يُحتضن فيه الاختلاف، التوتر، وحتى التناقض، لأن هذه هي طبيعة الإنسان.

لكن، هل يمكن للكاتب اليوم، وسط ضجيج المنصات، وهيمنة الصورة، وسرعة الاستهلاك، أن يكون ذاتًا فاعلة وصوتًا عميقًا؟

يبدو أن الأدب الحديث، في انبهاره بالشكل والتقنية، قد خسر جوهر التجربة. لم يعد يجرؤ على قول « أنا »، ولا على الاعتراف بالخوف، بالحب، بالغضب، بالجنون، بالهزيمة… كما فعل دوستويفسكي عندما غاص في أعماق الذات البشرية حتى حدود الجنون والقتل والقداسة. ولا كما فعل كافكا حين جعل الأدب تجسيدًا مرعبًا للاغتراب الإنساني.

أما نيتشه، فقد رأى أن التعبير الفني الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا صادرا عن « الروح المأساوية »، تلك التي تعي مأزقها وتصر على الصراخ من داخله. والكاتب الذي يتهرب من صراعه مع ذاته، مع قضاياه، مع أخلاقياته، يتحول إلى موظف في صناعة ثقافية فارغة، لا إلى ضمير حي.

في غياب الذات والموقف، يُختزل الأدب إلى لعبة شكلانية، أو إلى منتج استهلاكي لا يُزعج، لا يُسائل، لا يُحرّك. وربما لهذا السبب لم تعد الرواية، كما كانت في الماضي، مرآة للتاريخ، ولا الشعر مرآة للروح، ولا المسرح ساحة للتطهير.، كما نطالعه عند بعض الروائيين الجزائريين الذي يتمسكون بالمظاهر من خلال نرجسية نتنة، معتمدين الابتداع و الاتباع. لقد كتبوا بالعربية الظعيفة ثم انتقلوا الى الكتابة بالفرنسية الرديئة، محاولين ارضاء دوائر الجوائز الفرنسية، مثلما فعل كمال داود على سبيل المثال لا الحصر.

لقد كتب إدوارد سعيد أن « الكاتب الحقيقي هو من يقف خارج السلطة، لا من يسعى للتموضع داخلها ». والمقصود هنا بالسلطة، ليس فقط السياسة، بل كل منظومات الهيمنة: السوق، الذوق العام، الموضة الثقافية، وحتى المعايير الأكاديمية المعلبة التي تحافظ على استقرار اصحابها.

فهل يمكن استعادة الذات في الكتابة؟ وهل نملك، في زمن الرقابة الذاتية والخوف والرقمنة، شجاعة اتخاذ موقف؟

الجواب ربما في العودة إلى جوهر الكتابة: أن تكون شاهدًا على العصر، ومجسّدًا لما لا يُقال، ورافعًا لصوت الإنسان في هشاشته القصوى. كما قال هنري ميلر: « الأدب الحقيقي لا يُكتب بالأفكار فقط بل بالحياة نفسها »

( هذا تعليقي للصديق الكاتب و المفكر عمر ازراج حول تساؤله حول ماهية الادب، ارتايت مهما نشره)

د_حبيب_بوخليفة

: المصدر