موسى السادة
الإثنين 23 حزيران 2025

تخبرنا التجربة التاريخية أنّ أحد المساقات الرئيسية لأي عملية تحرّر شعب من الاستعمار، هو مساق عملية بنائه لهويّة وطنية متماسكة. إذ تتيح هذه الهوية تشكيل جماعة سياسية قادرة، عبر هذا الوعاء المشترك، على تسخير الأدوات السياسية والعسكرية بأفضل صورة ممكنة. وذلك عبر تنظيم المجتمع لذاته تحت مظلّة هذه الهوية القومية، أو ما يسمّيه بندكت أندرسون «النظام الثقافي». وهكذا تُخاض الحروب عبر استدعاء واستنفار الموروث الثقافي والتاريخي لهذا النظام.

وعليه، كانت عمليات إنتاج الهويّات القومية في دول الجنوب مرتبطة ارتباطاً مباشراً بمسار التحرّر من الاستعمار. بل يمكننا القول إنّ الهويّات القومية التي نشأت في سياق حربي وتحرّري، وفرضت نفسها على المستعمِر، كانت أكثر تماسكاً من تلك التي نشأت برعاية أو سماح الظرف الاستعماري.

تمثّل هذه العملية البنائية أبرز مساقات صراعنا مع الصهيونية، أي صناعة الهويّة والثقافة المضادة. ويمكننا أيضاً التقدير بأنها من أكثر المساقات التي شهدنا فيها تراجعاً، وتعاني من هدم مستمر، رغم أننا نقترب بين حين وآخر من الشروع في مسار بناء لها.
فنحن، في نهاية المطاف، نتحدّث عن تشييد علاقة منظّمة مع خزين ثقافي وتاريخي وحضاري. وفي حالتنا العربية تحديداً، فإنّ هذا الخزان غنيّ إلى درجة أنه يفرض نفسه بحضوره، حتى على أولئك الذين يبذلون جهداً للانفكاك منه.

المسألة الأخرى في حالتنا العربية، أنّ نقيضنا الاستعماري -أي المشروع الصهيوني- يعاني من عطب بنيوي في عملية تشكيل هويّة «وطنية» مضادة. وهذا يختلف عن تجارب مواجهة الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، بل وحتى الأميركي، من زاوية معينة.
ينبع هذا العطب من طبيعة الفكرة الصهيونية ذاتها، والتي، دون الخوض مجدّداً في تفصيلاتها، يمكن اختصارها بالقول إنها لا تعبّر عن نفسها كحالةٍ وطنية حديثة إلا بقدر ما يتوفّر لها فائض في القوة، وكلّما تراجع هذا الفائض، وانكشفت أزماتها، ظهرت كحقل متضعضع، قائم على انقسامات داخل الطوائف اليهودية نفسها.

كذلك، تتأرجح الصهيونية في إظهار نفسها بين كونها جماعة وطنية حديثة أو جماعة دينية، بحسب علاقتها بالمجال العالمي. لكنها، ضمن نطاق صراعها الإقليمي، تميل بشكل واضح إلى النظر إلى ذاتها وإلى الآخرين عبر منطق الهويّات الطائفية، الذي يطغى بشكل فاضح على رؤيتها الإستراتيجية.

يمكننا تلمّس هذه الديناميكيات الصهيونية عبر ردود فعل المتفاعلين معها. فمن داخل المجتمع الصهيوني نفسه، وفي مراحل فائض قوّته، ينبثق التسليم (اقرأ: الاستسلام) بتكوينه الوطني والتنظير له. يتلبّس هذا التنظير لبوس الفلسفة السياسية، إذ يسعى إلى شرعنة وجود المستعمر وتطبيعه. كما نجده مثلاً في أطروحات الدكتور عزمي بشارة، الذي يصوغ علاقة الفلسطينيين مع الصهيونية كعلاقة بين «شخصيتين وطنيتين متمايزتين وتطلّعاتهم» على حدّ تعبيره.

أمّا الديناميكية الثانية، فتتجلّى في حرص الصهيونية ومصلحتها في صعود الهويّات الطائفية في محيطها، سواء تحت ستار الاستنفار لقتالها أو بدعوى السعي إلى الصلح معها. وهي ديناميكية نال توضيحها قدْراً من التكرار.
إلا أنّ الأهمّية اليوم تكمن في التركيز على الديناميكية الثالثة، وهي الأزمة التي تعتري المشروع الصهيوني حين اصطدامه بهويّة وطنية متماسكة. أزمة تتعلّق بالخطاب والشرعية والممارسة السياسية والتبرير لمنطق النشأة والوجود، عاشتها الصهيونية في وجه العروبة السياسية في أوجها.

إلا أننا اليوم، وفي ظل العدوان الصهيوني-الأميركي على إيران لسنا بحاجة إلى العودة إلى السبر التاريخي. فالتجربة الوطنية الإيرانية الحالية تقدّم لنا مثالاً مباشراً وحيوياً على نجاعة الهويّة القومية في بُعدين متكاملين: أولاً، تحصين الجبهة الداخلية والاستنفار الشامل لمواجهة العدوان لشريحة واسعة متنوعة ومتناقضة في تصوّراتها الداخلية السياسية والثقافية. وثانياً، في كشف الأزمة الثقافية التي تعاني منها الصهيونية، وعجزها عن توظيف أدواتها الاستعمارية التقليدية، في اللّعب على الاختلافات الاثنيّة والثقافية، وكسر لحمة الشعب المستهدف.

فعلى مستوى التصادم الجدلي بين الهويّات، تتصاغر الهويّة الطائفية الهشّة والضعيفة التي تتبنّاها الصهيونية، أمام الهويّة القوية والراسخة للحضور الوطني والتاريخي والقومي لإيران والإيرانيين.
إنّ هذا الدرس بالغ الأهمية بالنسبة إلينا نحن العرب الذين نعاني من تفسّخ واضح وتدهور مستمر في الهويّة القومية. ورغم أنّ «طوفان الأقصى» قد مثّل لحظة استنفار جزئية لهذه الذات الحضارية العربية ونقض للحدود السياسية الاستعمارية، فإنّ الأزمة لا تزال تتأرجح بين الشدّ والجذب، وهو ما يستدعي مراجعة فورية.

لقد كشف «الطوفان» أنّ مسار الصراع مع الصهيونية لا يمكن فصله عن تبنّي هويّة قوية وصلبة. فالهويّات الضعيفة، سواء كانت طائفية أو قطرية وطنية مجتزأة، تعجز عن الصمود في وجه قوة المطرقة الصهيونية وآلتها العسكرية ومن خلفها الغرب الجماعي بموارده الضخمة.

أمّا في ما يخصّ الهويّات الوطنية القُطرية، فإنّ تصنيفها كهويّات ضعيفة يعود، في جوهره، إلى محدودية قدرتها على استدعاء واستحضار الموروث الحضاري العربي. فهي، على الأغلب، هويّات مستحدثة حديثاً، تمثّل إطاراً ثقافياً ضيقاً ومجتزءاً من التاريخ والجغرافيا، فضلاً عن هشاشتها في تمثيل من يُفترض أنهم ينتسبون إليها. ولذلك، فإنّ استنفارها في لحظات التحدي والخطر يشبه مَن يلوّح بسيف خشبي أمام فوهة مدفع.

وقد تجلّت شواهد هذا الضعف أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، ومحاولات استنفار الهويّة الوطنية اللبنانية كوسيلة للتصدّي، كما مثلاً في تبنّي وسم «#سور_لبنان_العظيم» في أواخر تشرين الثاني 2024. كان هذا التفاعل التعبيري أحد تجلّيات جنوح إلى القطيعة المتراكمة مع التجربة الفريدة للمقاومة الإسلامية، سواء في تحرير الـ 2000 أو حرب تموز. تلك التجربة التي جسّدت لحظة استنفار حقيقية للهوية الحضارية العربية والإسلامية العامة، كما عبّر عنها القائد الشهيد الأسمى السّيّد حسن نصرالله: «أنتم تقاتلون قوماً يعتزّون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم». وهذا تحديداً ما على الصهاينة انتظاره في الاشتباك القادم في الجنوب.

أمّا تصنيف الهويّات الطائفية كهويّات ضعيفة، فيعود إلى طبيعة «عصبيّتها»؛ أي قدرتها على استنفار الولاءات الضيّقة القائمة على الانتماء الاثنيّ والعشائري والمذهبي. ورغم عناوينها الدينية إلا أنها غير قادرة على استحضار البنية الإيمانية العميقة. فمواجهة قوة استعمارية غالبة وجبّارة لا تستقيم بمنطق العصبيات، بل تستدعي حضوراً إيمانياً قادراً على تجسير الهوّة المادية مع العدو، عبر استثمار الخزين الروحي والعقائدي.

لا تقتصر هذه المسألة على السياق العربي. فحتى في تجارب الشعوب الأخرى، فإنّ استنفار البنى القبَلية أو العصبيات المحلّية، كما في محاولات تجنيد العبيد الأفارقة في جيوش غير موحّدة ثقافياً، أدّى إلى هزائم متكرّرة. بينما نجد أنّ تسخير الروحانيات والرموز العقائدية، كما في حالة الفودو في ثورة هاييتي، أو «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية، أو توظيف الأيديولوجيات الكونية كالشيوعية، قد أفضى إلى صلابة قتالية وشعبية أعلى في مواجهة الاستعمار. فالعدالة والحرية قيم إنسانية كونية لا يستوي الدفاع عنها ضمن إطار حصري للجماعات.

وهذا بالضبط أحد الدروس المهمة التي يقدّمها لنا أهل غزة: كيف يؤثّر النصّ القرآني والعلاقة المباشرة مع مفهوم الإله المُطلق -الأكبر، الأقوى، الناصر- على تماسك البنية الإيمانية والأخلاقية، ويجعل من الإنسان المقاوم أكثر ثباتاً وصبراً وتضحية.
في المقابل، إنّ أدوات التعبئة الحصرية، رغم قدرتها على إثارة العصبية وشحن الأدرينالين، فإنها غالباً ما تعيد إنتاج البُنى القبلية أو الجماعات المحلية، وتؤدي إلى حصرية الانتماء داخل الطائفة أو الجماعة، بل وتصطدم بنظيراتها الأخرى ضمن السياق المحلّي ذاته. هذه الأدوات قد تكون فعّالة في الحروب الأهلية، كما رأينا في «الشيلات» والأناشيد الجهادية واللطميات، لكنها تنهار أمام اختبار الصدام مع قوة استعمارية جبّارة.

المشكلة التي ينبغي التوقف عندها والتعلّم منها، هي حالة الولع بالأدبيات، وما تولّده من نشوة تؤثّر في الجماهير، بل تدفع حتى الإطار التحليلي نفسه إلى اعتمادها كمسلّمات والإفراط بالتعويل على المضمون الخطابي لها. وهكذا نرى، على سبيل المثال، تحليلات تعمل على قياس مدى ثورية الهويّات المذهبية مقابل نظائرها وفقاً لقدرتها على استحضار الأدبيات واستنفارها بشكل إبداعي، دون مساءلة أعمق لطبيعة هذا الاستحضار وحدوده.

إنّ هذا الركون إلى التحليل الضعيف والمفتون، قد بات سمة شائعة في الخطاب السياسي والثقافي خلال السنوات الماضية. ولا يعني ذلك بأي حالٍ من الأحوال نفي فاعلية استحضار التراث التاريخي العربي الإسلامي، بمخياله الكلّي (السني والشيعي) من معركة بدر والأحزاب وقلع باب خيبر وملاحم خالد بن الوليد واستشهاد الإمام الحسين، وبناء الدولة الأموية في دمشق، وثورة زيد بن علي على ظلمهم، والعصر الذهبي لبغداد الرشيد والمأمون، وصولاً إلى قرطبة الداخل.

فهذا كلّه جزء من تراثنا وتاريخنا، ومكوّن من مكوّناتنا الحضارية الكبرى، وإن لم يكن الوحيد، فتاريخنا الثقافي لم يتوقّف هناك. بل إننا اليوم في أوج تذخيره بالأساطير البطولية كما مع أبي إبراهيم السنوار، وهو يقاتل تحت عنوان أسطورة القسّام التي سبقته بمئة عام فقط. إنّ مشكلة الاستحضار الحصري لهذا التراث، تكمن حين يُستخدم لتمييز مكوّن واحد على حساب المكوّنات الأخرى، فيُنتج استثنائية طائفية تتناقض جوهرياً مع مشروع الاستحضار الحضاري الجمعي، الذي يحتاجه أي مشروع تحرّري شامل.

وهذا ما يعيدنا إلى النموذج الإيراني الذي يختمر أمامنا، إذ نجد في كلمة القائد الأعلى السيد الخامنئي، المزج بين الذات القومية وأنفتها التاريخية الممتدّة والاستحضار الإيماني القرآني والتراث الإسلامي العام. كما في كل استنفار واستحضار الهويّة الوطنية بعمقها الثقافي والحضاري على طول الطيف السياسي في الداخل والخارج كأنجع أدوات مقارعة الاستعمار. لتبرز لنا من جديد أهمية تشييد هويّة عربية حضارية قوية، كأداة حاسمة في الصراع مع الصهيونية.

والمراقب الدقيق، المتعفّف عن التصنيفات الإيديولوجية البالية والجامدة، للخطابين اليمني لـ«أنصار الله» والفلسطيني على لسان أبي عبيدة، سيرى نموذجاً بارعاً لهذا الاستحضار، الذي يتخطّى الحدود والتنوع الاجتماعي العربي وبما يلتمس أكبر نطاق لمساحة القواسم الثقافية والقيم الأخلاقية المشتركة. وإن كان على هذه النماذج بطبيعة الحال التطور المستمر، وبصيرورة ترتبط بشكل مباشر مع الحاجة الملحّة إلى تطوير أدوات الحرب خلال الحرب، وفي أهم مساقاتها وهو تشييد هويّة سياسية بالتوليفة الأقوى للصمود والبقاء في هذه اللحظة التاريخية الصعبة والمصيرية.


موسى السادة- كاتب عربي