تُشكّل الحرب الإقتصادية والتّجارية الأمريكية إعادة نظر أو مُراجعة للمنظومة الدّولية التي تم إرساؤها سنة 1944 (بريتون وودز) لتقاسم العالم بنهاية الحرب العالمية الثانية التي أدّت إلى انحسار الإمبرياليتَيْن البريطانية والفرنسية وإلى توسّع الإمبريالية الأمريكية والإتحاد السوفييتي، وتندرج هذه الحرب الإقتصادية ضمن تعاظم القوة العسكرية للولايات المتحدة، وأهمية الدّولار ( القُوّة المالية)، وكذلك ضمن انعطافة هامة للدّول الإمبريالية نحو اليمين المتطرف والفاشية المُغَلَّفَة بقِناع « الدّيمقراطية »، وتجسيد التحالف بين قوى القوى العنصرية والفاشية ( أحزاب اليمين المتطرف ) وأثرى الأثرياء في أوروبا وأمريكا الشمالية ضدّ الأُجَراء والكادحين والمضطَهَدِين والفقراء داخل الدّول الرأسمالية المتقدّمة وفي العالم، فهي حرب الأغنياء ضدّ الفقراء…

بدأت هذه الحرب منذ سنوات، ولكنها تكثفت خلال العقد الثّاني من القرن الواحد والعشرين، وما يفعله دونالد ترامب حاليا هو استمرار لسياسة إدارة جوزيف بايدن ضد الصين ( المنافس الأكبر) التي  استفادت من التجارة الحرة، وضدّ مجموعة بريكس التي هدّدتها الولايات المتحدة بالوَيْل إذا تَخلّت عن الدّولار، واستمرارٌ لتدمير المؤسسات التي فرضتها الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية كالأمم المتحدة ومنظماتها واتفاقياتها المُتعَدِّدَة التي يتجاهلها الكيان الصهيوني بتشجيع من مجمل الدّول الرأسمالية المتقدّمة وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، وتمثّل الدّور الأمريكي في تخفيض أو إلغاء تمويل هذه المنظمات الدّولية ومُغادرة بعضها ( منظمة الصحة العالمية) وعدم تطبيق قرارات المحاكم الدّولية…  

وقَّعَ دونالد ترامب، يوم الثامن من نيسان/أبريل 2025 أمرًا تنفيذيًّا لدعم قطاع التعدين، حيث تراجع عدد العاملين بالمناجم خلال عقد واحد من سبعين ألف إلى أربعين ألف عامل ( وكالة رويترز 08 نيسان/ابريل 2025)، وعلّق توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز على ذلك: « يسعى دونالد ترامب – من خلال الميزانية الإتحادية – إلى تقليص تمويل التكنولوجيا النظيفة، وطاقة الرياح والشّمس وإلغاء الحَدّ من التلوث، كمما إنه بصدد عَزْل الولايات المتحدة من خلال مهاجمة أقرب حلفائها، مثل كندا واليابان وكوريا الجنوبية  والاتحاد الأوروبي، واستفزاز الصين – خصمنا الأكبر – ويدعم صناعات الطاقة المدمُرة للمناخ على حساب الصناعات المستقبلية… »، مع العلم إن توماس فريدمان من كبار الكُتّاب والصّحافيين الدّاعمين للقوة الأمريكية…

من جهتها درست صحيفة « وول ستريت جورنال » احتمالات تراجع المُضاربين عن شراء سندات الخزانة الأمريكية، مما قد يضطر الإحتياطي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة لاجتذاب المشترين، ويؤدّي رَفْعُ أسعار الفائدة إلى انخفاض الإستهلاك داخل الولايات المتحدة، بفعل ارتفاع أقساط ديون العقارات والسيارات وغيرها…

تُؤكّد صحيفة فايننشال تايمز إن قرارات دونالد ترامي تُؤدّي إلى انخفاض عدد الزّائرين للولايات المتحدة ( تحتل الولايات المتحدة منذ أكثر من عشر سنوات المرتبة الأولى بإيرادات السياحة الخارجية قبل إسبانيا وفرنسا) وعدد الطّلبة النابغين الذين كانوا يُخطّطون للدراسة في الولايات المتحدة، ثم حوّلوا وجهتهم إلى كندا أو أوروبا، هربًا من انعدام سيادة القانون ومن قَمع حرية التعبير والإعتقال التّعسّفي والتّرحيل، وبذلك تفقد الولايات المتحدة موقعها كقوة جذب المهاجرين والباحثين والمُبْتَكِرِين وتفقد موقعها كمركز علمي ومالي عالمي، وقد تظهر أصوات تُطالب بنقل الأمم المتحدة خارج هذه الدّولة المارقة، فيما أصبحت الصين « الدولة الرائدة عالميًا من حيث ناتج البحث العلمي في مجالات الكيمياء والفيزياء وعلوم الأرض والبيئة، وتحتل المرتبة الثانية في علوم الأحياء والعلوم الصحية » وفق مجلة ( Nature )…

تؤدّي زيادة الرسوم الجمركية إلى تقليص الواردات لكنها تضر بنمو الإقتصاد الأمريكي الذي يتم تعزيزه منذ عقود من خلال زيادة الديون الحكومية وارتفاع نسبة الفائدة، وإضعاف قيمة الدّولار ( الهدف الذي يسعى إليه دونالد ترامب لتعزيز صادرات الولايات المتحدة ) الذي قد يضر بمكانة الدّولار كمُستقطب للإستثمارات الدّولية في الولايات المتحدة، لأن الأجانب يحتفظون بقيمة حوالي عشرين تريليون دولارا من الأسهم الأمريكية، وبقيمة تفوق سبع تريليونات دولارا من سندات الخزانة الأمريكية، وبأكثر من خمس تريليونات دولارا من سندات الشركات الأمريكية، مما يرفع الدّيْن الخارجي الأمريكي إلى ما لا يقل عن 24 تريليون دولارا، وقد تؤدّي السياسات المُتهوّرة لإدارة دونالد ترامب إلى اهتزاز ثقة المُستثمرين وإلى انهيار الطلب على الأصول الأمريكية، والتهديد بانهيار منظومة الإقتصاد العالمي الذي تُشكّل الولايات المتحدة قاطِرَتَهُ، وفق المعهد الدولي للتمويل (IIF) تعليقًا على تراجع أسواق المال العالمية…

نشر موقع صحيفة فايننشال تايمز بتاريخ الرّابع من أيار/مايو 2025، تعليقًا على قرارات الرّسوم الجمركية التي اتخذها دونالد ترامب الذي يتبنّى رؤية اقتصادية قومية شوفينية لتحقيق أهداف جيوسياسية، وشبّه هذه القرارات ب » الإعصار المالي » الذي أدّى إلى « اضطراب الأسواق العالمية ولدى المُستثمرين بفعل حجم الاقتصاد الأميركي ومركزه في المنظومة المالية العالمية »، وقد تكون النتائج السلبية عديدة ومن بينها انخفاض الناتج العالمي وعدم استقرار الأسواق وانعدام الثقة، لأن رأس المال يحتاج إلى الإستقرار، ولا يعترف بالحدود القومية، لأن دينه ومذهبه الوحيد هو الرّبح، وأدّى الإضطراب الناتج عن قراراتدونالد ترامب هروب رؤوس الأموال وتراجع قيمة الدّولار الذي لم يعُد ملاذًا آمنا وتراجعت أسعار الأسهم وإلى ارتفاع عدد عمليات بيع سندات الخزانة، خصوصًا بعد إجراءات انتقامية قام بها دونالد ترامب ضد بعض مكاتب المحاماة، وبعض الشركات، وبعد قطع التمويل عن جامعات عريقة مثل « هارفارد »، ويرى بعض خبراء صندوق النقد الدولي « إن الحرب التجارية أضافت ضغوطًا جديدة إلى تلك التي كانت قائمة بفعل الحروب ( أوكرانيا والمشرق العربي) مما قد يؤدّي خفض توقعات نمو الاقتصاد العالمي من 3,3% إلى 2,8% « 

 تندرج السياسات العدوانية للولايات المتحدة، من خلال قرارات رئيسها دونالد ترامب، ضمن محاولات بسط النّفوذ وتأكيد الهيمنة الأمريكية على العالم، ورفض أي شكل من أشكال المنافسة أو تقاسم النّفوذ في إطار التقسيم الدّولي للعمل والتبادل التجاري، وأدّى إعلان الحرب الإقتصادية والتّجارية إلى مجموعة من العواقب، خلال أقل من ثلاثة أشهر، وتحاول الفقرات الموالية تقديم أمثلة لما يحصل عَمَلِيًّا جراء هذه القرارات، وقد تكون بعض التفاصيل مُملّة لكنها أداة فَعّالة لمن يريد سَبْرَ أغوار تأثيرات هذه القرارات الأمريكية، وهذه بعضها:  

قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لصحيفة « تسايت » الألمانية (16 أبريل/نيسان 2025) ردا على سؤال حول الدور القيادي المحتمل للاتحاد الأوروبي في ما سَمّته الصحيفة العالم الغربي: « الغرب كما عرفناه جميعا لم يعد موجودا بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض »، وتجدر الإشارة إلى أن أورسولا فون دير لاين هي وزيرة ألمانية سابقة، ثَرِيّة (وكذلك زوجها) ومؤيدة لأميركا وأطلسية وصهيونية.

تخطط الإدارة الأميركية للتفاوض مع أكثر من سبعين دولة للحصول على التزامات من شركائها التجاريين بعزل الصين اقتصاديا مقابل خفض الرسوم الجمركية التي فرضها البيت الأبيض، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال (16 نيسان/ابريل 2025)، بهدف هو مَنْعِ الصين من نقل البضائع إلى أراضي هذه البلدان أو عِبْرَها، ومنع الشركات الصينية من ترسيخ وجودها في هذه البلدان بهدف التحايل على الرسوم الجمركية الأميركية، ومنع دخول المنتجات الصناعية الصينية الرخيصة إلى أسواقها.

من ناحية أخرى، تهدد الإدارة الأميركية بفرض رسوم جمركية بنسبة 245% على الواردات من الصين في سياق تصعيد درجة التوترات التجارية بين البلدين، بحسب بيان صادر عن مكتب الإعلام الصّحفي للبيت الأبيض، والذي يذكر بأنه في أوائل نيسان/ أبريل 2025، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوماً جمركية بنسبة 10% على جميع الدول ورسوماً جمركية إضافية على المنتجات من الدول « التي تعاني الولايات المتحدة من أكبر عجز تجاري معها، من أجل تحقيق التوازن التجاري وضمان الأمن القومي الأميركي »، وفي وقت لاحق، أعلن البيت الأبيض أن أكثر من 75 دولة حول العالم « بدأت بالفعل مفاوضات » مع واشنطن من أجل « إبرام اتفاقيات تجارية جديدة »، وفي ضوء هذه المناقشات، تم تعليق الرسوم الجمركية على جميع الدول باستثناء الصين، التي ردّت بالمثل، ونتيجةً لهذه الإجراءات، قد تواجه الصين الآن رسومًا جمركية تصل إلى 245% على الواردات الأمريكية، وفقًا للبيان، ولم يقدم البيت الأبيض تفاصيل بشأن توقيت أو شكل الإجراءات المشددة.

من جهتها، علّقت الصين صادراتها من مجموعة واسعة من المعادن والمغناطيسات الأساسية، مُهدّدة بخنق إمدادات المكونات الأساسية لشركات صناعة السيارات ومصنعي الطائرات وشركات أشباه الموصلات والمقاولين العسكريين حول العالم، وتوقفت شحنات المغناطيسات، الضرورية لتجميع كل شيء من السيارات والطائرات من دون طيار إلى الروبوتات والصواريخ، في العديد من الموانئ الصينية، ريثما تُصوغ الحكومة الصينية قرارات تنظيمية جديدة، وفق صحيفة «نيويورك تايمز»، وبمجرد تطبيقه، يُمكن للنظام الجديد أن يمنع وصول الإمدادات إلى شركات مُعيّنة، بما في ذلك المقاولون العسكريون الأميركيون، بشكل دائم، كما أعلنت الصين تعليق مشترياتها من شركة بوينغ بسبب الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وأعلنت الحكومة الصينية وقف تسليم طائرات بوينغ لشركات الطيران الصينية، حسبما ذكرت وكالة بلومبرغ (16 نيسان/أبريل 2025)، ردًّا على فَرْض الولايات المتحدة زيادة حادّة في الرّسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية تصل إلى 145% منذ الثاني من نيسان/ابريل 2025، وفرضت الحكومة الصينية منذ يوم الرابع من نيسان/ابريل 2025، قيوداً على تصدير ستة معادن أرضية نادرة ثقيلة، تُكرّر بالكامل في الصين، بالإضافة إلى مغناطيسات أرضية نادرة، تحتكر الصين إنتاج نسبة 90% منها، ولا يُمكن الآن شحن هذه المعادن، والمغناطيسات الخاصة المصنوعة منها، خارج الصين إلا بتراخيص تصدير خاصة، لكن الصين لم تبدأ بعدُ – حتى منتصف نيسان/ابريل 2025 –  في إنشاء نظام لإصدار التراخيص، مما أثار قلق مسؤولي الصناعة من احتمال إطالة أمد العملية، ومن احتمال انخفاض الإمدادات الحالية من المعادن والمنتجات خارج الصين، وإذا نفدت مغناطيسات الأرضية النادرة القوية من المصانع في مصانع السيارات بمدينة ديترويت الأمريكية وأماكن أخرى، فقد يمنعها ذلك من تجميع السيارات وغيرها من المنتجات المزوّدة بمحركات كهربائية تتطلب هذه المغناطيسات، وتتفاوت الشركات بشكل كبير في حجم مخزوناتها الاحتياطية لمثل هذه الحالات الطارئة، لذا يصعب التنبؤ بتوقيت انقطاع الإنتاج، وبحسب موقع «ستاتيكا» للإحصاءات، تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على واردات المعادن الأرضية النادرة من الصين، التي شكلت 70% من وارداتها بين سَنَتَيْ 2020 و2023، بينما تُعدّ ماليزيا واليابان وإستونيا المُوَرِّدِين الرئيسيِّين الثلاثة الآخرين للولايات المتحدة، ويُستورد الإيتريوم، أحد العناصر المشمولة بالقواعد الجديدة، بشكل شبه حصري من الصين، حيث تأتي 93% من مركبات الإيتريوم المستوردة إلى الولايات المتحدة بين سَنَتَيْ 2020 و2023 من الصين، ووفقاً لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تعتمد الولايات المتحدة على استيراد الإيتريوم بنسبة 100%، وهو يُستخدم بشكل أساسي في المحفزات والسيراميك والإلكترونيات والليزر والمعادن والفوسفور.

تُستخدم « المعادن الأرضية النادرة الثقيلة » التي يشملها قرار الصين بتعليق التصدير في المغناطيسات الأساسية للعديد من أنواع المحركات الكهربائية، وتُعدّ هذه المحركات مكونات أساسية للسيارات الكهربائية والطائرات الآلية ( من دون طيار)، والروبوتات والصواريخ والمركبات الفضائية، كما تستخدم السيارات التي تعمل بالبنزين أيضاً محركات كهربائية مزودة بمغناطيسات أرضية نادرة لأداء مهام حيوية مثل التوجيه.

كما تُستخدم المعادن النادرة أيضاً في المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع محركات الطائرات وأجهزة الليزر ومصابيح السيارات وبعض شمعات الاحتراق، وتُعدّ هذه المعادن النادرة مكونات أساسية في المكثفات، وهي مكونات كهربائية لرقائق الحاسوب التي تُشغّل خوادم « الذكاء » الاصطناعي والهواتف « الذكية ».

صرّح رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة «أميركان إليمنتس»، وهي شركة توريد مواد كيميائية مقرها لوس أنجليس، بأن شركته أُبلغت بأن الأمر سيستغرق 45 يوماً قَبْلَ إصدار تراخيص التصدير واستئناف صادرات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيس، وأضاف أن شركته زادت مخزونها الشتاء الماضي تحسباً لحرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين، ويمكنها الوفاء بعقودها الحالية أثناء انتظار التراخيص، وأعرب رئيس اللجنة الاستشارية للمعادن الحرجة في مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة ووزارة التجارة، عن قلقه بشأن شُح توافر المعادن النادرة، وقال: «هل من المحتمل أن يكون لضوابط أو حظر التصدير آثار وخيمة على الولايات المتحدة؟ نعم». وأكد رئيس قسم التجارة الدولية والأمن القومي في شركة «بوكانان إنغرسول وروني» للمحاماة، ضرورة إيجاد حل سريع لمشكلة المعادن النادرة لأن استمرار انقطاع الصادرات قد يضر بسمعة الصين باعتبارها مورداً موثوقاً، غير إن وزارة التجارة الصينية، التي أصدرت قيود التصدير الجديدة بالاشتراك مع الإدارة العامة للجمارك، مَنَعَت الشركات الصينية من التعامل مع قائمة متزايدة من الشركات الأميركية، وخصوصاً المقاولين العسكريين، وأعلن أحد رواد التعدين الأميركيين والرئيس التنفيذي لشركة «إم بي ماتيريالز»، إن إمدادات المعادن الأرضية النادرة للمقاولين العسكريين كانت مصدر قلق خاص، وأضاف: « إن الطائرات المسيرة والروبوتات هي الأسلحة التي سيتزايد استخدامها على نطاق واسع في الحروب المُستقبلية، وبناءً على كل ما نراه، فقد توقفت المدخلات الأساسية لسلسلة التوريد مما يثير تساؤلات حول مستقبل الصناعات الحربية المستقبلية « ، وتجدر الإشارة إن الشركة التي يُديرها – «إم بي ماتيريالز» – تمتلك منجم المعادن الأرضية النادرة الوحيد في الولايات المتحدة، وهو منجم ماونتن باس في صحراء كاليفورنيا بالقرب من حدود نيفادا، وتأمل الشركة في بدء الإنتاج التجاري للمغناطيس في تكساس بنهاية العام 2025 لحساب شركة «جنرال موتورز» وغيرها من الشركات المصنعة.

أما في اليابان، فإن بعض الشركات تحتفظ بمخزونات من المعادن الأرضية النادرة تزيد على إمدادات عام كامل، لأنها استخلصت الدّروس بعد أن تضررت سنة 2010، عندما فرضت الصين حظراً لمدة سبعة أسابيع على صادرات المعادن الأرضية النادرة إلى اليابان خلال نزاع إقليمي.

بدأت قيود التصدير الصينية حيز التنفيذ قبل أن تعلن إدارة ترمب مساء الجمعة 11 نيسان/ابريل 2025 أنها ستعفي العديد من أنواع الإلكترونيات الاستهلاكية الصينية من أحدث تعريفاتها الجمركية، لكن صادرات المغناطيسات لا تزال محظورة هذا الأسبوع، وفق تصريحات خمسة مسؤولين تنفيذيين في صناعة العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات التي تخضع – مثل معظم السلع الصينية – لأحدث الرسوم الجمركية عند وصولها إلى الموانئ الأميركية، ولكن مَضت الصين قُدُمًا في التعامل بالمثل والرّد، خصوصًا وإنها تحتكر المعادن النادرة وأنتجت – حتى سنة 2023 – نحو 99% من إمدادات العالم من المعادن الأرضية النادرة الثقيلة، مع إنتاج ضئيل من مصفاة في فيتنام، لكن هذه المصفاة أُغلقت خلال العام 2024 بسبب نزاع ضريبي، مما ترك الصين في حالة احتكار، كما تنتج الصين 90% من إجمالي إنتاج العالم من مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة، الذي يبلغ نحو 200 ألف طن سنوياً، وهي أقوى بكثير من مغناطيسات الحديد التقليدية، وتنتج اليابان معظم الكمية المتبقية، وتنتج ألمانيا كمية ضئيلة أيضاً، لكن اليابان وألمانيا تعتمدان على الصين في الحصول على المواد الخام، لأن أغنى رواسب المعادن الأرضية النادرة الثقيلة في العالم تقع في وادٍ صغير مُغطى بالأشجار على مشارف مدينة لونغنان في تلال الطين الأحمر بمقاطعة جيانغشي في جنوب وسط الصين، وتقع معظم مصافي التكرير ومصانع المغناطيس الصينية في لونغنان وغانتشو أو بالقرب منهما، وهي بلدة تبعد نحو 80 ميلاً، وتقوم المناجم في الوادي بنقل الخام إلى المصافي في لونغنان، وتتمثل عملية « التّصْفِيَة » في إزالة الملوثات وإرسال المعادن النادرة إلى مصانع المغناطيس في قانتشو…

يُمثل تباطؤ النّمو أحد أهم نتائج الحرب التجارية، إذْ أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ( أونكتاد)، يوم الإربعاء 16 نيسان/ابريل 2025، إن النمو الاقتصادي العالمي ربما يتباطأ فينخفض من 2,8% سنة 2024 إلى 2,3% سنة 2025، بسبب التوتر التجاري وحالة الضبابية التي تؤدّي إلى الرّكود، ووَرَدت هذه التّوقّعات المتشائمة ضمن تقرير نشرته منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة ( أونكتاد) عن توقعات التجارة والتنمية لهذا العام 2025: « يُمثل هذا تباطؤًا كبيرًا مقارنةً بمتوسط معدلات النمو السنوية المسجلة في فترة ما قبل جائحة كورونا، والتي كانت في حد ذاتها فترة من النمو الضعيف عالميًا ».

أما الأسواق المالية فقد اضطربت منذ بداية شهر نيسان/ابريل 2025، بسبب حالة عدم اليقين الإقتصادي والتجاري، بعد إعلان بداية تنفيذ الرّسوم الجمركية الإضافية بداية من الثاني من نيسان/ابريل 2025، قبل تعليق تطبيقها على 12 اقتصاد، لكنها لا تزال سارية المفعول بنسبة 145% بخصوص واردات الولايات المتحدة من المنتجات الصينية، وفي فقرة أخرى من تقرير « أونكتاد » وَرَدَ « إن جولات متتالية من التدابير التجارية التقييدية والمواجهة الجيواقتصادية يحملان مخاطر حدوث اضطرابات حادة في خطوط الإنتاج العابرة للحدود وتدفقات التجارة الدولية، ما يؤدي بدوره إلى تراجع النشاط الاقتصادي العالمي وزيادة تخوفات المُستثمرين… ( ولذا) تتّسِمُ التوقعات العالمية للعام 2025 بأعلى مستوى من عدم اليقين السياسي الذي شهدناه هذا القرن، مما يتسبب في تكبد الشركات خسائر كبيرة وتأخير الاستثمار والتوظيف… » وحثت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إدارة ترامب على « استثناء أفقر الاقتصادات وأصغرها من التعريفات الجمركية المتبادلة، ( لأن ذلك  ) سيكون له تأثير ضئيل على أهداف السياسة التجارية للولايات المتحدة ».

خفضت منظمة التجارة العالمية توقّعاتها لحركة التجارة الدّوْلية للسلع، لسنة 2025، من نمو قوي بنسبة 3% إلى نحو 0,2% بسبب زيادة الرسوم الجمركية الأميركية وامتداد تبعاتها وتأثيراتها التي يتوقّع أن تكون « أشدَّ ركودٍ منذ ذروة جائحة كوفيد-19… » استنادًا إلى الإجراءات الأمريكية التي بدأ تطبيقها يوم الثاني من نيسان/ابريل 2025 وتوقعت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية انكماشًا حادًّا وانخفاضًا في حركة التجارة الدّولية بنسبة 1,5%، وهو أكبر تراجع منذ سنة 2020، مما يؤدّي إلى انخفاض نمو الناتج الإجمالي المحلي للدّول، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7% في الأمد البعيد، إذا لم يتم حل الإشكالات المطروحة حاليا، وإلى انعكاسات سلبية على الأسواق المالية وعلى قطاعات اقتصادية أخرى على نطاق واسع، خصوصًا في البلدان الفقيرة المُسمّاة « نامية »، وقد تؤدّي هذه الحرب التجارية إلى فك الارتباط بين الاقتصادين الأميركي والصيني الذي قد يؤدِّي إلى « عواقب وخيمة إذا ساهم في تفتيت أوسع للاقتصاد العالمي على أسس جيوسياسية وتحويله إلى كتلتين معزولتين »، وتتوقع منظمة التجارة العالمية انخفاض تجارة السلع بين البلدين ( الولايات المتحدة والصّين) بنسبة 81%، وهو معدل كان من الممكن أن يصل إلى 91% في حال عدم إعلان الاستثناءات الأخيرة لمنتجات من بينها الهواتف الذكية، ونقلت وكالة رويترز عن مُدير تنفيذي سابق بصندوق النّقد الدّولي « أصبح التنبؤ بسيناريو أساسي موثوق مسألة مستحيلة تقريبا ( بسبب) تَراجُعِ ما تبقى من نظام التجارة القائم على القواعد، لصالح وضع فوضوي قائم على الصفقات، وتعتمد أي توقعات بشأنه على قدرة الحكومات على إبرام صفقات ثنائية مع الولايات المتحدة… »

امتدّت وطأة التداعيات السلبية المباشرة للحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تثير تقلبات حادة في الأسواق كافة لتُصيب العُملة الأمريكية ( الدّولار) الذي كان يُعَدُّ ملاذًا آمنا، يرتفع أو يستقر سعرًهص خلال فترات الإضطراب، ولكنه لم يتمكّن من البقاء بعيدًا عن « التّأثيرات الجانبية » لتلك الحرب، ولم يتمكّن من تجنّب التّقلّبات التي أثارت قلق الرأسماليين والمُضاربين بالأسهم ( المُستثمِرِين) وأَثّرت سلبًا في السوق المالية « وول ستريت » فانخفض مؤشر الدّولار الذي يقيس قيمة العملة الأميركية مقابل سلة من العملات الرئيسية، إلى أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات، خلال الأسبوع الثاني من شهر نيسان/ابريل 2025، بفعل تزايد حالة عدم اليقين التي أثارتها قرارات زيادة الرسوم الجمركية، وفي مقابل انخفاض قيمة الدّولار، ارتفعت قيمة اليورو الأوروبي والين الياباني بأكثر من %4 مقابل الدّولار، خلال الأسبوعَيْن الأوّلَيْن من شهر نيسان/ابريل 2025، بعد تسريب تقارير المصارف الأمريكية الكبرى بشأن احتمال حدوث انكماش النّمو الإقتصادي وارتفاع معدّلات البطالة في الولايات المتحدة، وعادةً ما يساهم تدهور الوضع الإقتصادي في زيادة الضُّغُوط على الأسواق وفي تراجع الطلب على الدّولار، وتراجع مؤشر الدولار الذي يفقد مكانته كملاذ آمن زمن الأزَمات، كما تراجع الطلب على السندات وعلى أسهم الشركات الأمريكية، ويُهدّد هذا الوضع مكانة الدّولار في النظام المالي الدّولي، ويزيد من البحث عن سُبُل « فكّ الإرتباط » بالدّولار الذي يهيمن حاليا، وعلى مدى قصير وحتى متوسّط على التجارة العالمية وأسعار المواد الأولية ( ومن ضمنها المحروقات) وعلى التحويلات المالية الدّولية، ولكن السلطات الأمريكية تُدْرِك جيّدًا الخسائر التي تُصيبها جراء التّخَلِّي عن الدّولار ولذلك هدّد دونالد ترامب الدّول ( بما فيها أعضاء مجموعة بريكس) التي تعتزم تقويم المبادلات التجارية بعملات أخرى غير الدّولار، وفي واقع الأمر ساهمت الولايات المتحدة في محاولات بعض الدّول خفض التعامل بالدّولار، بسبب القرارات الأمريكية الجائرة: الحَظْر والعُقوبات واستغلال النفوذ الإقتصادي والسياسي والإعلامي والعَسْكَرِي لابتزاز الدّوَل…

يُؤَدِّي تراجع الدّولار إلى ارتفاع مكانة الذّهب كملاذ آمن ( بَدَل الدّولار)، فقد ارتفعت مشتريات المصارف المركزية من الذّهب مما رفع سعره بنسبة 27% منذ بداية العام 2025، وإلى مستوى قياسي ( 3359,5 دولارا للأونصة أو الأوقية) صباح الخميس، السابع عشر من نيسان/ابريل 2025، مما يزيد من تراجع الدّولار، وترافق ارتفاع سعر الذّهب مع ارتفاع سعر المعادن النفيسة الأخرى، كالفضة والبلاتين…

تأثّرت شركات التكنولوجيا الأمريكية باحتداد التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين، فقد أعلن متحدث باسم شركة « إنفيديا »، يوم الثلاثاء 15 نيسان/ابريل 2025، إن قرارات الحرب التجارية وحظر التعامل مع الصين تؤدّي إلى خسارة الشركة نحو 5,5 مليار دولارا من التّكاليف الإضافية بعد أن حَدَّت الحكومة الأميركية من صادرات شريحتها للذكاء الاصطناعي، وفرضت قيودا على صادرات رقاقة الذكاء الاصطناعي (إتش20) إلى الصين، وهي سوق رئيسية لإحدى أشهر رقائقها، ويندرج هذا القرار ضمن محاولة مسؤولي الحكومة الأمريكية الحفاظ على صدارة سباق الذكاء الاصطناعي، مع الإشارة إلى سيطرة شركة إنفيديا على أكثر من 90% من سوق وحدات معالجة الرسومات المستخدمة بشكل أساسي في مراكز البيانات، وفقًا لشركة أبحاث السوق آي.دي.سي ( نهاية آذار/مارس 2025)، وانخفضت أسهم شركة إنفيديا بنسبة 6% لأن رقائق « إتش 20  » مطلوبة في السوق الصينية ومن قِبَل شركات صينية عديدة مثل « علي بابا » و « تينسنت » و « بايت دانس » ( الشركة الأم لتطبيقات تيك توك ) وهي أكثر تطوّرًا من الرقائق الأخرى المعروضة في أسواق الصّين، وعلّلت الحكومة الأمريكية تقييد مبيعات (إتش20) للصين بسبب « خطر استخدامها في حواسيب عملاقة » وسبق أن أعلنت شركة إنفيديا ( يوم الاثنين 14 نيسان/ابريل 2025) أنها تخطط لبناء خوادم ذكاء اصطناعي بقيمة تصل إلى 500 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة بمساعدة شركاء مثل تايوان سيميكوندكتور مانيوفاكتشرينج (تي.إس.إم.سي)، تماشيا مع سعي إدارة ترامب للتصنيع المحلي.

بالإضافة إلى إنفيديا، أعلنت شركة صناعة أشباه الموصلات الأميركية أدفانسد ميكرو ديفايسز (  AMD – أيه.إم.دي) إنها تتوقع تكبد خسائر بقيمة 800 مليون دولار من إيراداتها نتيجة القيود التي قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرضها على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين، وإنها ستسعى للحصول على تراخيص لتصدير منتجاتها إلى الزبائن في الصين، لكنها لا تستطيع التأكد من حصولها عليها، وفق وكالة بلومبرغ بتاريخ 15 نيسان/ابريل 2025، وتجدر الإشارة إن إدارة الرئيس « الدّيمقراطي » جوزيف بايدن أصدرت قرارات عديدة تزيد من القيود على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين بذريعة احتمال  » تهديدات للأمن القومي » من منافس جيوسياسي.

انخفضت أسهم شركات التكنولوجيا وتصنيع الرقائق، يوم الإربعاء 16 نيسان/ابريل 2025، بعد إعلان شركة إنفيديا أن الضوابط الأميركية الجديدة على صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي ستُكلفها 5,5 مليار دولار إضافية، وكانت إنفيديا قد أعلنت أنها ستبدأ إنتاج حواسيبها الفائقة للذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة لأول مرة، وانخفضت أسهم منافِستها «إيه إم دي» بنسبة 6,5%، كما انخفضت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الآسيوية الكبرى، فتراجعت أسهم شركة أدفانتست، المُصنّعة لمعدات الاختبار، بنسبة 6,7% في طوكيو، وخسرت شركة ديسكو 7,6% ، بينما انخفضت أسهم شركة تي إس إم سي التايوانية بنسبة 2,4%…  

أعلن بيان البيت الأبيض يوم الجمعة 11 نيسان/ابريل 2025، عن مجموعة من الإعفاءات الجمركية المؤقتة لبعض الواردات الإلكترونية من الصين (الهواتف الذكية والأجهزة المنزلية وأشباه الموصلات وخوادم الذكاء الاصطناعي)، وتُقَدَّرُ نسبتها ما بين 20% و25% من إجمالي الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، ولم يكن هذا التراجع ناتجا عن تأثير الرسوم الجمركية على أسعار الإستهلاك داخل الولايات المتحدة بل بسبب ارتفاع الطلب على سندات الخزانة الأمريكية التي تُعَدُّ أكبر وأكثر أسواق الدَّيْن الحكومي تطورًا، وهي شريان الحياة للميزانية العمومية الأمريكية، وجزءًا من أدوات الإستقرار الإقتصادي والمالي، وعادةً ما يلجأ المستثمرون – خصوصًا خلال الشدائد والأزمات – إلى الذهب، وصناديق الإستثمار المَوْثُوقة وإلى سندات الدّيْن الحكومية التي ترتفع أسعارها وترتفع عائداتها عند ارتفاع الطلب عليها، أي ارتفاع الدّيُون الحكومية وفوائدها، وهو ما حصل لسندات الخزانة الأمريكية مُؤَخّرًا، فالسندات الأمريكية تتميز بأنها مُقوّمة بالدّولار ( أي العملة المحلية للولايات المتحدة) وارتفعت العائدات على سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 4,5% يوم الجمعة 11 نيسان/ابريل 2025…

أدّت المخاوف بشأن المؤسسات الأمريكية والأضرار الاقتصادية الجسيمة الناجمة عن القرارات الحمائية الأمريكية، والقلق من احتمال تصاعد التوترات العالمية بين الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم الصين، والتوقعات السلبية بشأن دخول الإقتصاد الأمريكي في حالة ركود عميق، إلى تَحَوُّلٍ في الموقف تجاه الاقتصاد الأمريكي، ولم تَعُدْ صناديق التقاعد الدنماركية والكندية (وهما من أكبر المستثمرين في العالم) تعتبر الولايات المتحدة مصدرًا موثوقًا للنمو، وتَلَقَّى الاحتياطي الفيدرالي عددًا قياسيًا من طلبات المصارف المركزية الأجنبية لسحب احتياطياتها الذهبية من فرع الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وإعادتها فعليًا،  ولا علاقة للصين بعمليات السّحت، فهي تمتلك حيازات ضخمة من الأصول والسندات الأمريكية، تُقدّر ب 759 مليار دولار، والصين ثاني أكبر دائن للولايات المتحدة…  

وردت معظم المعلومات والبيانات بمواقع وكالتَيْ رويترز و بلومبرغ  16 و 17 نيسان/ابريل 2025

خفض دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأولى ( 2017 –  2020 ) الوظائف الحكومية، وكانت حصة وزارة الخارجية من التخفيضات كبيرة، وكان الرئيس الأمريكي يعتزم خفض ميزانيتها بنسبة 50%، وفق المشروع الذي نَشَرَهُ منتصف نيسان/ابريل 2016، فضلا عن تخفيض المبالغ المُخصّصة للمساعدات الإنسانية والمنظمات الدولية بما فيها منظمات الأمم المتحدة…

يتواصل هذا المُخطّط خلال فترة رئاسة دونالد ترامب الحالية، فقد وقّع – منتصف آذار/مارس 2025 – أمرًا تنفيذيا لخفض عدد الموظفين بالعديد من مؤسسات الدّولة الإتحادية والوكالات الحكومية مثل وكالة الإعلام العالمي التابعة للحكومة الأمريكية، المسؤولة عن الدعاية للسياسة الخارجية وتُشرف على برامج محطات الإذاعة الممولة من الحكومة الأمريكية مثل صوت أمريكا وراديو الحرية / أوروبا الحرة، وأقسام الإنترنت الخاصة بها، وتقليص ميزانيات بعض الوكالات الحكومية الأخرى بشكل كبير، ويقوم مكتب كفاءة الحكومة ( إيلون ماسك)، بتنفيذ عمليات تسريح جماعي للموظفين الفيدراليين وتفكيك وكالات عديدة مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ( USAID ) التي تقلصت ميزانيتها بنحو 50% ومكتب حماية المستهلك وإلغاء أو خفض تمويل المساعدات الإنسانية والصحة العالمية والمنظمات الدولية واقترح البيت الأبيض خَفْض أنشطة وزارة الخارجية بنسبة 48% ( أو حوالي 27 مليار دولارا) عن التمويل الذي وافق عليه الكونجرس للعام 2025 ( 55,4 مليار دولارا) وتقليص نشاط والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وتقليص حجم الأموال المخصصة للمنظمات الدولية بنحو 90%، ووضع حدّ لتمويل عمليات حفظ السلام والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وعشرين مؤسسة دولية أخرى – وسوف يتم الاحتفاظ فقط بتمويل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة الطيران المدني الدولي، والمنح التقليدية بقيمة 5,1 مليار دولار لتطوير القوات المسلحة للدول الحليفة بشكل فردي، بما في ذلك مصر والكيان الصهيوني ، وتؤدّي قرارات خفض إلى طرد عشرات الآلاف من موظفي وزارة الخارجية البالغ عددهم 80 ألف موظف، فضلاً عن إغلاق عدد من القنصليات وبعض الإدارات والبرامج التابعة للسلك الدبلوماسي، ومرافق أخرى…

كما أشار موقع واشنطن بوست بتاريخ 02 أيار/مايو 2025 إن دونالد ترامب يعتزم خفض عدد موظفي وكالة المخابرات المركزية ( سي آي إيه ) وغيرها من وكالات الاستخبارات الأميركية، وكان صرّح بذلك منذ شهر شباط/فبراير 2025، عندما استخدم الإعلام الهابط المؤيدة له ووكالات الأمن لتهديد معارضيه، وتُشكل عملية تخفيض ميزانية وكالة الإستخبارات المركزية وإقالة الموظفين فُرصة للتطهير وللتخلص من خصومه السياسيين داخل الجهاز الحكومي، كجزء من الصراع السياسي، تحت غطاء خفض الإنفاق الحكومي، وسبق أن أَوْرَدَ موقع صحيفة وول ستريت جورنال ( 05 شباط/فبراير 2025) إن إدارة الإستخبارات المركزية عَرَضت على جميع موظفي الوكالة الإستقالة الطوعية مقابل الحصول على ثمانية أشهر من الأجر كتعويض، وتستهدف خطط الحكومة تسريح 1200 من موظفي وكالة الاستخبارات المركزية ( CIA ) من إجمالي 22 ألف موظف، وتلقى موظفو الوكالات الفيدرالية الأخرى أيضًا رسائل تتضمن نفس الاقتراح، وتتوقع إدارة ترامب أن يؤدي إلغاء « عدة آلاف » من الوظائف في وكالة الأمن القومي (المسؤولة عن استخبارات الإشارات)، ووكالة استخبارات الدفاع، ووكالة الاستخبارات الجغرافية الوطنية، ومكتب الاستطلاع الوطني، وخفض الأجهزة الحكومية بنسبة تتراوح بين 5% و10% إلى توفير نحو 100 مليار دولار للحكومة، فيما عبّر بعض نُوّاب الحزب الدّيمقراطي بالكونغرس « إن هذه التخفيضات متهورة، ومن شأنها تَسْيِيس العمل الإستخباراتي وإضعاف أمن البلاد… »

أسست سلطات الولايات المتحدة  » إدارة التعاون الدّولي  » خلال فترة رئاسة « دوايت إيزنهاور من الحزب الجمهوري ( 1890 – 1969 ) التي امتدّت من 1953 إلى 1961 كأداة للدّعاية الإيديولوجية ولتوسيع النفوذ الأمريكي والقضاء على « المَدّ الشيوعي » بعد تعزيز صفوف الدّول التي أعلنت تبنّي الإشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية، وبرعت في بث الدّعاية الإيديولوجية، وركّزت على بعض مناطق العالم، وفي أمريكا الجنوبية ركّزت عملها الدّعائي على تشيلي، حيث استقبلت الجامعات الأمريكية، بداية من 1953، العديد من الطلاّب التشيليين في مجال الاقتصاد النيوليبرالي بجامعة شيكاغو ( التي كانت بمثابة معقل النيوليبرالية الإقتصادية)، وبعد عشرين سنة نظّمت الولايات المتحدة انقلابا ضد الرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطيا ( سلفادور أليندي) يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، وتم فَرْض الإقتصاد النيوليبرالي الذي لا يزال طاغيا على اقتصاد تشيلي…

بعد انتخاب الرئيس جون إف. كيندي من الحزب الديمقراطي ( 1917 – 1963) ) سنة 1961، تم استبدال إدارة التعاون الدولي ب »الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية » ( USAID ) سنة 1961، كذراع لوزارة الخارجية وللإستخبارات الأمريكية، خصوصًا في بلدان « العالم الثالث » بهدف « مقاومة المَدّ الشيوعي » وامتداد نفوذ الإتحاد السوفييتي في البلدان حديثة الإستقلال أو في البلدان التي لا تزال تحت الإستعمار، خصوصًا في إفريقيا، واهتمت الوكالة بشكل خاص بالدّعاية المناهضة للشيوعية ونشر الإيديولوجيا الإمبريالية السائدة المُوجّهة للمثقفين والفئات الوسطى وموظفي الدّولة أو القطاع الخاص، من خلال « مُساعدات مجانية في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية »، وتكيّفت البرامج الإعلامية والإقتصادية للوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية مع الأحداث وأنشأت برامج لمقاومة بعض الأمراض وبرامج زراعية وحماية البيئة و »الحَوْكَمة » و »الإنتقال الدّيمقراطي »، إلى جانب برامج مكافحة الجوع والفقر والأوْبِئة، وتستفيد الشركات الأمريكية حصريًّا من هذه البرامج التي تُموِّلها الحكومة الأمريكية، بهدف ظاهري مُعلن يتمثل في « مساعدة البلدان الفقيرة على تحقيق التنمية » وفي واقع الأمر فهي دعاية سياسية وإيديولوجية، ودعم اقتصادي ومالي للشركات الأمريكية، حيث تبقى الأموال في الحسابات المصرفية لهذه الشركات…

على الجبهة العقائدية والسياسية، ساهمت « الوكالة الأميركية للتنمية الدولية » في تعزيز التّدخّل الإمبريالي الأمريكي في العديد من البلدان لدعم السلطات الدّكتاتورية المحلّية أو لقلب نظام الحُكم الذي لا ترضى عنه السلطات الأمريكية، وتدخّلت في الشؤون الدّاخلية للبلدان، مثلما حدث في إندونيسيا سنة 1965، حيث أعدّت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية (  CIA ) – بواسطة أعوانها الذين كانوا يتخذون من التوظيف في الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية غطاء لهمن – قوائم بأسماء الشيوعيين وأفراد أُسَرِهم وأصدقائهم، مما أدّى إلى قتل ما لا يقل عن نصف مليون شيوعي – حقيقي أو مُفترض – خلال انقلاب الجنرال سوهارتو الذي تدعمه الإمبريالية الأمريكية،  وجعلت وكالة الإستخبارات الأمريكية من أندونيسيا مُختبرًا لتدريب قوات الشرطة على جمع المعلومات حوال الإنتماء السياسي للمواطنين وإنشاء سجلاّت للمعارضين بهدف إقصائهم من الوظائف والحياة السياسية، ولا تزال الوكالة تُقدّم الدّعم العسكري للكيان الصهيوني وللعديد من الأنظمة الدّكتاتورية الموالية للإمبريالية الأمريكية، وكانت ذراعًا لوكالة الإستخبارات الأمريكية في العديد من بلدان العالم التي شهدت تنظيم « ثورات مُلَوّنة »…   

قرّر دونالد ترامب أن يكون بث الدعاية الإيديولوجية الإمبريالية وتلقين مبادئ الإقتصاد الرأسمالي بواسطة الجامعات الأمريكية، ولذلك قَرّر حل « الوكالة الأميركية للتنمية الدولية » (USAID)، مما أزعج الليبراليين الذين يتخوفون من انخفاض النُّفُوذ الأمريكي في أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا، ويُغلّفون ذلك بالتظاهر بالحرص على دعم برامج الرعاية الصحية والتعليم والإعلام في البلدان الفقيرة، ودَعْم برامج المنظمات « غير الحكومية » أو  » غير الربحية » التي تتلقى مساعدات مالية…  

اقترحت إدارة دونالد ترامب إنشاء « وكالة بديلة تكتفي بتوزيع المساعدات الإنسانية » وتَتخلّى عن  مؤسسات الإعلام و برامج ترويج الدعاية الإمبريالية الأميركية التي حافظت على أشكال الدّعاية التي كانت سائدة سنوات الحرب الباردة، وإغلاق السفارات الأمريكية في عشرات الدّول، لأن دونالد ترامب وأنصاره يُؤكّدون غياب أي منافسة للإيديولوجيا السّائدة سواء على المستوى السياسي أو الإقتصادي، وغياب أي برنامج بديل للرأسمالية منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، ويقترح دونالد ترامب وأنصاره التّخلّي عن « القُوّة الناعمة » وعن الدّبلوماسية بشكلها التقليدي، ولذلك وجب فَرْض المصالح الأمريكية بالعقوبات والحصار الإقتصادي وبالعصا الغليظة والقُوّة العسكرية لا غير، كما وجب فَرْض الطّاعة والخضوع داخل الولايات المتحدة، وتعزيز عَسْكَرة قوات الأمن الدّاخلي والشرطة وحرمان بعض مؤسسات البحث العلمي والتعليم من التّمويل، إذا استمرت في الحديث عن « الحرية الأكاديمية وحرية التعبير »، وعن التفاوت في الثروات، وإذا لم تتحول إلى مؤسسات للدعاية الإيديولوجية « المُحافِظَة »، وبذلك تتحوّل الجامعات إلى أبواق دعاية مثل وسال الإعلام الأمريكي السّائد…  

لم يستبعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – خلال مقابلة مع شبكة إن بي سي نيوز » الأمريكية بتاريخ الرابع من أيار/مايو 2025 –  إمكانية استخدام القوة العسكرية لفرض السيطرة على جزيرة غرينلاند التي تتمتع بالحكم الذّاتي، تحت الوصاية أو الحماية الدّنماركية، وقال الرئيس الأمريكي في رد على سؤال: « أنا لا أستبعد استخدام القوة، أنا لا أقول إنني سأفعل ذلك، ولكنني لا أستبعد أي خيار ( لأن) الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى غرينلاند حيث  يعيش عدد قليل جدًا من الناس الذين سوف نعتني بهم ونحميهم… ( إننا) نحتاج إلى هذه السيطرة من أجل الأمن الدولي… »، وسبق أن صرّح دونالد ترامب  في مناسبات عديدة « يجب أن تنضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة » غير إن استطلاع الرأي الذي أُجْرِيَ في غرينلاند خلال شهر كانون الثاني/يناير 2025 أظْهَرَ  أن 6% فقط من سكان الجزيرة يؤيدون الانضمام إلى الولايات المتحدة.

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتزامه امتلاك جزيرة غرينلاند –ذات الحكم الذّاتي – والتابعة للدانمارك والواقعة في المحيط المتجمد الشمالي، بالمال وبالتهديد وباستخدام القُوّة، وسبق أن طرح دونالد ترامب، سنة 2019، شراء جزيرة « غرينلاند »، وهي أكبر جزيرة في العالم، والتي تتمتع بحكم ذاتي تحت السيادة الدانماركية، ووصفها ترامب بأنها « صفقة عقارية كبيرة يمكن أن تخفف من الأعباء المالية للدانمارك »، ثم أعاد ترامب الكَرَّةَ سنة 2025 وأرفق « طَلَبَهُ » بتهديد الدّنمارك بفرْض رسوم تجارية مرتفعة جدًّا إذا استمرت في رفض الصّفقة، بعد إبلاغ وزير خارجية الدانمارك زميله الأمريكي معارضة بلاده بشدة لتصريحات الرئيس الأميركي بشأن الاستحواذ على جزيرة غرينلاند، واعتبرها « اعتداء على السيادة الدانماركية » وتقع الجزيرة قريبًا من القطب الشمالي ومن أمريكا الشمالية، وتتمتع بموقع استراتيجي وقد تؤدي زيادة الحرارة إلى ذوبان الجليد وفتح طريق تجارة بحرية هامة جدا، بين المحيط الأطلسي الشمالي وأميركا الشمالية، فضلا عن مواردها الطبيعية الهائلة من المحروقات والمعادن، كالليثيوم والكوبالت واليورانيوم، التي تُعدّ ضرورية للطاقة الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية والحواسيب والهواتف والصناعات العسكرية والصناعات التكنولوجية الحديثة.

سبق أن طرح دونالد ترامب، سنة 2019، شراء جزيرة « غرينلاند »، وهي أكبر جزيرة في العالم، لا يسكنها سوى أقل من ستين ألف نسمة، والتي تتمتع بحكم ذاتي تحت السيادة الدنماركية، ووصفها ترامب بأنها « صفقة عقارية كبيرة يمكن أن تخفف من الأعباء المالية للدنمارك »، ثم أعاد ترامب الكَرَّةَ سنة 2025 وأرفق « طَلَبَهُ » بتهديد الدّنمارك بفرْض رسوم تجارية مرتفعة جدًّا إذا استمرت في رفض الصّفقة، ومن الجدير ذكره إن الولايات المتحدة تمتلك قاعدة عسكرية جوية هامة ( قاعدة ثول) وهي أهم القواعد الأمريكية لمراقبة الفضاء والتهديدات الصاروخية، وعلّل دونالد ترامب تهديداته للدنمارك « إن غرينلاند ضرورية للأمن القومي الأميركي ».

تتمتع الجزيرة بحكم ذاتي منذ سنة 2009، وقدّر البنك العالمي ( بيانات سنة 2021) الناتج المحلي الإجمالي لغرينلاند بنحو 3,2 مليارات دولار وتبلغ المساعدة السنوية الدّنماركية حوالي ستمائة مليون دولار، لمجابهة صعوبات مناخ الجزيرة وعزلتها وصعوبة – بل استحالة – تعاطي النشاط الفلاحي بسبب الثلوج التي تُغطي ما لا يقل عن 80% من أراضيها بشكل مستمر، ويقتصر النشاط الإقتصادي على الصّيْد والصناعات الأولية، مع الإشارة إن جميع الأراضي تُعدّ ملكية عامة ولا توجد مِلْكؤية خاصة للأرض…

تمثل صادرات الإنتاج البحري أكثر من 90% من إجمالي صادرات غرينلاند ( بقيمة تُعادل 800 مليون دولارا سنويا، أو نحو  23% من الناتج المحلي الإجمالي) ويُشغل القطاع بشكل مباشر وغير مباشر نحو 4300 شخص يمثلون حوالي 15% من العاملين بالجزيرة التي تستورد معظم جاجياتها من الغذاء، بفعل المناخ القاسي الذي لا يسمح بممارسة النشاط الفلاحي، وتُعد الأسعار في الجزيرة من أغلى مناطق العالم، وتُساهم الدّنمارك بمنحة سنوية تُعادل  20% من الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة، وفق وكالة « بلومبرغ » بتاريخ الثالث من أيار/مايو 2025. 

يمثل التهديد بالإستيلاء بأي طريقة على غرينلاند جزءًا من التّاريخ المُظْلِم للولايات المتحدة منذ البدء ( إبادة السّكّان الأصليين والعبودية)، وعند تشكيل الولايات المتحدة سنة 1776 كانت تضم ثلاثة عشر ولاية، وظهر خلال القرن التاسع عشر شعار (وممارسة) ضرورة التّوسّع نحو الغرب، حتى المحيط الهادئ ( ولاية أوريغون ) وخليج ألاسكا، ثم التّوسّع جنوبا وضم 55% من أراضي المكسيك ( تكساس وكاليفورنيا وأريزونا ويوتا ونيفادا ونيو مكسيكو وكولورادو) إثر الهزيمة العسكرية للمكسيك ومعاهدة 1848، وقبل ذلك اشترت الولايات المتحدة، سنة 1803، ولاية أريزونا، واشترت الولايات المتحدة ألاسكا سنة 1867 من روسيا، وتبلغ مساحة ألاسكا 1,5 كيلومترًا مُربّعًا، كما ضمّت الولايات المتحدة – أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين – مجموعةً من الجزر والأقاليم في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، مثل ضم هاواي سنة 1898 والاستيلاء على بورتوريكو وغوام من إسبانيا بعد نهاية الحرب الإسبانية الأمريكية، واقتطعت الولايات المتحدة ما أصبح يُسمّى دولة بنما، سنة 1903، بالقوة العسكرية من كولومبيا، وجعلت منها مَحْمِيّة قبل حفر القناة ثم السيطرة عليها، وتم يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1903، توقيع معاهدة هاي-بوناو-فاريلا بين بنما والولايات المتحدة، والتي بموجبها حصلت واشنطن على الحق « إلى الأبد » في نشر قوات مسلحة لضمان السيطرة على قناة بنما (بدأ البناء في عام 1904 واستمر لمدة عشر سنوات )

قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، اشترت ( آذار/مارس 1917) جُزُرَ فيرجن الدنماركية مقابل 25 مليون دولار من الذهب، خوفًا من أن تقع الأرخبيل تحت السيطرة الألمانية، من عام 1941 إلى عام 1946، احتلت القوات الأمريكية غرينلاند ( بينس سنتَيْ 1941 و 1946) التي كانت أيضًا تابعة للدنمارك، وبعد انتهاء العمليات العسكرية، أعادت الولايات المتحدة ( برئاسة هاري ترومان ) الجزيرة على مضض إلى أصحابها الأصليين، في محاولة لضم الدول الأوروبية إلى الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.

يخطط الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب اليوم « لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى »، باستخدام الحُروب على كافة الجبهات، من الحرب الإقتصادية والتجارية والإيديولوجية إلى التهديد بالعدوان العسكري على من يُخالف رغبة الرئيس والطبقة الرأسمالية الثرية جدًّا التي يُمثّل مصالحها، وبدأ بالمطالبة « بحقوقه في قناة بنما وغرينلاند وكندا »، وبذلك يعود دونالد ترامب إلى الأُصول أو إلى أُسُس إنشاء الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية والإبادة والإيديولوجية العنصرية ( المُغلَّفَة بالدّين ) والتّوسّع واحتقار (وإبادة) الشّعوب، فقد شكّل التوسع الجغرافي للولايات المتحدة – على مدى ما يقرب من 150 عاماً من وجودها – القاعدة في تطورها وإن اختلفت الطُّرُ والوسائل، وخصوصًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذْ فضّلت الولايات المتحدة الهيمنة الإيديولوجية والثقافية والإقتصادية والمالية، وخففت من رغبتها في الاستحواذ على أراضٍ جديدة، إلى أن أحْيَت إدارة جون كينيدي، أوائل ستينيات القرن العشرين مسار « الآفاق الجديدة »، فاتّخذ التوسع الجغرافي شكل « استكشاف الفضاء » و برنامج أبولو للرحلات المأهولة إلى القمر، الذي أعلن عنه خلال شهر أيار/مايو 1961، وتم تنفيذه بنجاح خلال شهر تموز/يوليو  1969، قبل حوالي عشر سنوات من « انفتاح » إدارة جيمي كارتر على الجيران في أمريكا الجنوبية، و تشغيل قناة بنما بالاشتراك مع بنما سنة 1979 (بعد أن كانت تديرها للولايات المتحدة حصْريًّا) قبل أن تنتقل القناة بالكامل إلى بنما سنة 1999 (إدارة وليام كلينتون )، وفي الأثناء نظمت الولايات المتحدة انقلابات وغزوات ومؤامرات، وسلّحت مليشيات الإرهاب اليميني المتطرف في العديد من بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية ومناطق أخرى من العالم…

انهار جدار برلين ( تشرين الثاني/نوفمبر 1989) وانهار الإتحاد السوفييتي ( 1991) ولم تضع الولايات المتحدة حدًّا للحرب الباردة ولم يتم حلّ حلف شمال الأطلسي بل تم تعزيزه بالدّول التي كانت تُوصَف بالإشتراكية، وعادت الولايات المتحدة، مع حلول القرن الواحد والعشرين، إلى مبدأ مونرو (الذي أسسه الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو – كانون الأول/ديسمبر 1823) ويتلخص في اعتبار أمريكا الجنوبية ونصف الكرة الغربي هو « الحديقة الخلفية » لأميركا، ومنطقة حضور ونفوذ حصرية للولايات المتحدة، لكن توسّع « مبدأ مونرو » ليتجاوز « غرينلاند » كحدود جغرافية جديدة للتوسُّع الأمريكي، وليشمل فلسطين، إذ أعلن دونالد ترامب رغبته ضمّ غزّة « كمشروع عقاري هائل » وفق تعبيره . أما غرينلاند فقد استهدفها دونالد ترامب من آب/أغسطس 2019 (خلال فترة رئاسته الأولى) وطَرَح شراءها، « لأن الدولة التي تملكها تملك أيضاً القطب الشمالي بأكمله »، فضلا عن حقول النفط والغاز والمعادن الأرضية النادرة، وكان ردّ  رئيسة وزراء الدنمارك آنذاك ( ميت فريدريكسن ) جافًّا ومُقتضبًا : « غرينلاند ليست للبيع »، وعاد دونالد ترامب إلى طرح الموضوع بعد الانتخابات الرئاسية ( تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، فكتب على وسائل التواصل الاجتماعي « إن ملكية غرينلاند والسيطرة عليها ضرورة مطلقة، من أجل ضمان الأمن القومي (الأمريكي) والحرية في جميع أنحاء العالم »، وكان رد رئيس وزراء الجزيرة: « غرينلاند ملك لنا ولن نبيعها أبدًا »…

فتح دونالد ترامب عدّة جبهات في نفس الوقت، ( كندا وبنما وغرينلاند وغزة والصين… ) فكان ردّ الفعل مُتشابهًا في مواجهة الوقاحة والإبتزاز والتهديدات الإمبريالية الأمريكية، مما يُذكِّرُ بسيناريو غزو الجيش الأميركي لبنما ( كانون الأول/ديسمبر 1989 – كانون الثاني/يناير 1990 ) كتدريب قبل إعلان العدوان على العراق وعلى يوغسلافيا، وأطاحت الولايات المتحدة بزعيم بنما آنذاك مانويل نورييغا الذي نصّبتها بنفسها، ثم نشرت الولايات المتحدة 26 ألف جندي بدعم من 100 مركبة مدرعة و200 طائرة ومروحية…

حَوّلت الإمبريالية الأمريكية شعار الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي من « دَعْهُ يعمل، دَعْهُ يَمُرّ » إلى شعار « الولايات المتحدة ولا أحد غيرها » وتميزت هيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالإحتكار وحماية الحدود وعرقلة دخول الإنتاج الأجنبي – بما في ذلك إنتاج المَحْمِيّات مثل اليابان وألمانيا – إذا كان قادرًا على منافسة الإنتاج الأمريكي في السّوق الدّاخلية، واعتمدت على القوة العسكرية التي تسند الدّولار وتنتشر في كافة القارات والبحار، وعادت إلى الإحتلال المباشر – خصوصًا منذ بداية القرن الواحد والعشرين – مما يُحوّل الولايات المتحدة إلى كائن طُفَيْلي ( parasite ) وإلى خطر عالمي وإلى عدو لشعوب وبلدان العالم، بحكم دعمها الكيان الصهيوني وتهديد أي دولة تُفكّر في استبدال الدّولار بعملات أخرى، وبحكم حصار البلدان والشعوب وما إلى ذلك من ممارسات قُطّاع الطّرق ومجموعات الجريمة المُنظّمة…

هناك العديد من الأسباب التي لا تُثير الكثير من النقاش لكنها تُساهم في تدهور مكانة الولايات المتحدة، ومن بينها اختطاف الطلاب الأجانب وإلغاء تأشيرات الإقامة والاحتجازات على الحدود، وأدّت هذه الممارسات إلى انخفاض حاد في أعداد الزائرين الجدد للولايات المتحدة، والباحثين وأصحاب المواهب والخبرات والكفاءات الذين كانوا يرغبون في الانتقال الدائم إلى الولايات المتحدة، وكان هؤلاء المهاجرون يُشكّلون حجر الأساس للابتكار التكنولوجي الأمريكي، وقد يُؤدّي غيابهم إلى  ترجيح كفة الصين.

نعيش تحوّلات تاريخية، تتمثل في نهاية حقبة « بريتن وودز » والمؤسسات المالية الدّولية والأمم المتحدة، لأن هذه المنظومة الدّولية – والتحالفات التي أدّت إلى إنشائها – بصدد الإنهيار، بعد ثمانين سنة من تأسيسها، وتُعدّ الولايات المتحدة العُدّة للإبقاء على نظام « القُطب الرأسمالي الواحد » فيما تدعو الصين وروسيا إلى عالم رأسمالي متعدّد الأقطاب، ولا مصلحة لنا كشعوب واقعة تحت الهيمنة والإضطهاد أو كطبقات كادحة تُعاني الإستغلال والإضطهاد والإستعمار الإستيطاني (فلسطين وكاناكي ) في الإصطفاف وراء أي من الطَّرَفَيْن، غير إننا نُدْرك إن الإمبريالية الأمريكية عدوّ استراتيجي للشعوب ( وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني وشعوب البلدان العربية ) وتشكل الخطر الأكْبَر على السلم، وهي أكبر منتج ومُصدّر ومُستخدم للأسلحة ولها أساطيل بجوب البحار ومئات القواعد العسكرية خارج أراضيها، فضلا عن زعامتها لحلف شمال الأطلسي العدواني وحمايتها للكيان الصهيوني والأنظمة الرجعية العربية…

الطاهر المعز    

 وردت العديد من البيانات بدراسة نشرها موقع معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا التابع للأكاديمية الروسية للعلوم (إسكران) تم الإطلاع عليها يوم الرابع من أيار/مايو 2025