مكانة إفريقيا في الأطماع الدّولية سنة 2025 : الطاهر المعز
الجزء الأول
تتكون هذه الدّراسة من ثلاثة أجزاء عن بعض الوضع في إفريقيا في خضم التغيرات الحاصلة منذ نهاية القرن العشرين، ويتضمن الجزء الأول محاولة لرَصْد مظاهر التبادل غير المتكافئ الذي تُمثّل قارة إفريقيا نموذجًا له، منذ موجة الإستقلال الشّكلي خلال عقد الستينيات من القرن العشرين، وتغيير أشكال الإستغلال والهيمنة، بفعل انتقال مركز القوة من أوروبا ( فرنسا وبريطانيا) إلى الولايات المتحدة، وترصد الأجزاء الثلاثة للدّراسة احتداد المنافسة الأمريكية لفرنسا في شمال وغرب إفريقيا والمنطقة المحيطة بالصحراء الكبرى، وترصد مظاهر "القُوّة النّاعمة" الصّينية في إفريقيا والعودة ( البطيئة أو المُحْتَشمة) لروسيا بعد قرابة ثلاثة عقود من انهيار الإتحاد السوفييتي الذي كان يدعم حركات التحرر والقوى التقدمية...
ترصد الدّراسة تأثيرات الدّيُون الخارجية وما سُمِّيَ "مُساعدات دولية" وتأثيرها المباشر على حياة المواطن، ويظهر هذا التّأثير بشكل جَلِيّ بعد إعلان الرئيس الأمريكي شَلّ عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية وتعليق التمويل لبرامج الرعاية الصحية والتدريب في إفريقيا ( وغيرها) والإبقاء على البرنامج العسكري الأمريكي في إفريقيا (أفريكوم)، كما ترصد الدّراسة التغييرات الحاصلة خلال السنوات الأخيرة، على مستوى السّلطة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وكذلك في السينغال، وعلى مستوى الشعوب التي انتفضت ضد ارتفاع الأسعار وتدهور ظروف العيش، وكذلك ضدّ الهيمنة الإمبريالية، وقد تؤدّي هذه التغييرات إلى سيطرة شعوب إفريقيا على ثرواتها وعلى مصيرها...
تقديم
تُمثّل قارة إفريقيا نموذجًا للعلاقات غير المتكافئة بين المركز الرأسمالي الإستعماري وبلدان المُحيط الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، وتهدف الفقرات الموالية إبراز التناقض بين ثراء أعماق البحار وباطن الأرض الإفريقية وفَقْر سُكّانها، وتُركز بعض الفقرات على ما تسمى « المُساعدات الدّولية من أجل التنمية » ومحاولة إظهار طابعها الإستغلالي فهي استثمارات لصالح الدّول والشركات العابرة للقارات وليست مُساعدات لسكان إفريقيا وتُشكل العلاقات الفرنسية مع دول إفريقيا الغربية وعلاقات الولايات المتحدة مع البلدان الإفريقية أبرز مثال على هذا الطابع الإستغلالي والعسكري، وتُفيد البيانات المُتاحة للفترة 2004 – 2022 بلوغ إجمالي « المساعدات الإنمائية » الرسمية الممنوحة في جميع أنحاء العالم 1,729 تريليون دولا، وحصلت إفريقيا على 805 مليار دولار من المساعدات الإنمائية الرسمية خلال هذه السنوات الثماني عشرة، ويتم تنفيذ 87% من الميزانيات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لكن كلما ارتفعت قيمة وحجم « مساعدات التنمية » ازداد تفاقم الفقر فقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر (أقل من 1,90 دولار في اليوم) في القارة الأفريقية، وارتفعت نسبة فُقراء العالم الذين يعيشون في إفريقيا من 10% سنة 1970 إلى 75% بنهاية سنة 2023، ويتوقع البنك العالمي أن تصل هذه النسبة إلى 90% بحلول سنة 2030، مما يثير تساؤلات مشروعة حول أهداف مساعدات التنمية، خلافًا للمساعدات الصينية التي تستهدف إحداث تغييرات جذرية في المجتمع، وهذه فُرصة لطرح تساؤلات – قد لا تتوفر الإجابة عنها في هذه الوَرَقَة – بشأن طريقة الخروج من دوّامة الدُّيُون و »المُساعدات » والتَّبَعِيّة، والبدائل للدّيُون و »المُساعدات » ( وهما وَجْهان لعُمْلَة واحدة) ونمط التنمية المنشود وكيفية تنفيذ أو إنجاز السياسات البديلة.
إفريقيا – ثراء البَحْر وباطن الأرض وفَقْر السّكّان
توقّع مصرف التنمية الإفريقي، في بداية العام 2025، ارتفاع نسبة النمو الإقتصادي للقارة من 3,7% سنة 2024 إلى 4,3% سنة 2025، غير إن ارتفاع نسبة النّمو لا تُحسّن بشكل مُباشر وضع الكادحين والفُقراء، وهم يمثلون أغلبية السّكّان في كل مناطق العالم، وفي إفريقيا بشكل خاص حيث ترتفع نسبة الفَقْر إلى حوالي ثُلُث المواطنين ( 465 مليون في حالة فقر مدقع) ونَظَرًا لِنَدْرَة الوظائف وارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة، من المُرجّح استمرار الفقر الذي تستغلّه المنظمات الإرهابية والجريمة المُنظّمة والتجارة بالبشر لِنَشْر الفوضى، كما تستغلّه القوى الإمبريالية – التي يدعم بعضها مجموعات الإرهاب والجريمة المُنظّمة – لإِحْكام السيطرة على القارّة وثرواتها، كما يحصل في المنطقة المُحيطة بالصّحراء الكبرى وفي شرق إفريقيا، ويُصرّ رأس المال العالمي ( المُعَوْلَم ) على السيطرة على إفريقيا لأن معدل عائد الاستثمار الأجنبي في أفريقيا أعلى منه في أي منطقة أخرى من بلدان « العالم الثالث » ( الجنوب)، وارتفع معدل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال القرن الواحد والعشرين بأكثر من ضعف معدله خلال العقدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، بفضل نمو قطاعات الإنشاء ( البُنْية التحتية ) والبناء والاتصالات والخدمات المصرفية وتجارة التجزئة، في غياب الصناعات التحويلية لمعالجة الإنتاج الإفريقي من المحروقات والمعادن والمنتجات الزراعية والصيد البحري، ولتبرير عدم الإستثمار في هذه المجالات في إفريقيا، تتعلّل الشركات العابرة للقارات بمجموعة من التحديات، ومن بينها الضغوط البيئية وارتفاع حِدّة الاحتجاجات الاجتماعية والصراعات وانعدام الأمن، ولم تتمكّن التّجمّعات الإقليمية مثل المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) أو منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، من حلّ معضلات التّبَعِية الإقتصادية والبطالة والفقر والهجرة غير النّظامية، بل تقلّص حجم المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي تحتفل هذا العام بالذكرى الخمسين لتأسيسها، بعد خروج مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بنهاية شهر كانون الثاني/يناير 2025، بسبب الموقف المُعادي للسلطات الجديدة في هذه الدّول الثلاثة وبسبب ولاء قادة دُول « إيكواس » للإمبريالية الأوروبية، وفرنسا بشكل خاص – التي سحبت قواتها بنهاية العام 2024، من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأعلنت سَحْبَ « معظم » قواتها المنتشرة في ساحل العاج والسنغال سنة 2025 – وأسست مالي وبوركينا فاسو والنيجر « تحالف دول الساحل » وطالبوا بإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية ومغادرة جنودها البلدان الثلاثة، فيما لا تزال الضّبابية تَلُفُّ القواعد الأمريكية، وتُحيط بالعلاقات مع برنامج القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم)…
تواجه العديد من البلدان والشعوب الإفريقية تهديدات أمنية خطيرة، سواء في المنطقة المُحيطة بالصّحراء الكبرى، حيث ازدادت المجموعات الإرهابية قُوّةً بعد تفتيت ليبيا من قِبَل حلف شمال الأطلسي، وسيطرة الجماعات الإرهابية على أسلحة الجيش الليبي، وتشريد ثلاثة ملايين عامل إفريقي كانوا يعملون في ليبيا، كما تعيش العديد من البلدان الإفريقية، من نيجيريا غربًا إلى الصّومال والسودان شرقًا، صراعات مُسلّحة تدعمها القوى الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، للسيطرة على ثروات البلدان ( كالمحروقات في نيجيريا والذهب في مالي والسودان والمعادن في الكونغو…) وعلى الموقع الإستراتيجي لأراضيها، وأدّت هذه الحروب إلى نزوح ما لا يقل عن عشرين مليون شخص خلال سنتي 2023 و 2024 وفي بَلَدَيْن فقط، هما الكونغو والسّودان…
يحتوي باطن أرض قارّة إفريقيا على العديد من الموارد الطبيعية المهمة: الذهب والحديد والنحاس والألمنيوم والبلاتين والكروم والنفط والغاز الطبيعي، بما يُعادل ثُلُثِ احتياطيات العالم من المعادن، ومن ضمنها 90% من البلاتين و78% من الماس و60% من الكوبالت و40% من الذهب و40% من الكروم و28% من المَنْغَنِيز و18% من اليورانيوم، ونحو 7,5% من احتياطيات النفط المؤكدة و7,1% من الغاز الطبيعي، ولذلك أصبحت إفريقيا في خط المواجهة الاقتصادية العالمية، وفي قلب الصراع على النفوذ الاستعماري الجديد، واستغلّ الكيان الصّهيوني وضع عدم الإستقرار ليدعم الحركات الإنفصالية في بيافرا ( نيجيريا) والكونغو وجنوب السّودان وغيرها ( بالتعاون مع نظام المَيْز العنصري بجنوب إفريقيا والإستعمار البرتغالي، فضلاً عن الإستخبارات الامريكية والبريطانية والفرنسية) ولتعزيز التعاون الأمني والعسكري والفلاحي مع العديد من الأنظمة الإفريقية، قبل تدعيم العلاقات الإستراتيجية مع النظام المغربي، واستخدام المغرب كبوابة لتوسيع النّفوذ الصّهيوني في منطقة جنوب الصحراء الكبرى وإفريقيا الغربية، وزيادة التّغلغل الأمني والعسكري والإستخباراتي، وتأجيج التوترات الإقليمية ودعم بعض المنظمات الإنفصالية، منها بعض منظمات الطوارق على سبيل المثال، وما الكيان الصهيوني سوى جزء من الإمبريالية ( أو فرع منها أو وكيل لها) التي تريد التّوسُّع باستمرار وتعزيز الهيمنة والسيطرة على المواد الخام وطرق الاتصال والمرور والأسواق وقوة العمل، لتحقيق التراكم الرأسمالي وزيادة الأرباح…
شَكّلَ رأس المال الطبيعي ما بين 30% و 50% من الثروة الإجمالية للدول الإفريقية، وتُشكّل الموارد الطبيعية للقارة 77% من مجمل وارداتها، و42% من مجمل عائداتها الحكومية، مما يعني إنه يتم تصدير هذه الثروات الطبيعية الهائلة خامّة، دون مُعالجة، لتعود في شكل إنتاج مُصنّع بأسعار مُضاعَفَة، وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة سنة 2012، واستمر استنزاف الثروات منذ ذلك الحين، واستمر العجز الغذائي والجوع رغم ارتفاع نسبة الأراضي الصالحة للزراعة إلى 65% من أراضي القارة، مما يجعلها قادرة على إنتاج ما يكفيها وزيادة من الغذاء، ولكن سُكّان القارة – الّذين تُشكّل نسبة الشّباب مِمّن تقل أعمارهم عن 25 سنة 60% منهم – لا يستفيدون من هذه الثّروات التي تستغلها وتستفيد منها الشركات العابرة للقارات والدّول الإمبريالية التي تنهبها، وتُغْرِق الدّول الإفريقية بالدُّيُون، وتُمثّل إفريقيا نموذجًا للتّقْسيم الدّولي للعمل وللعلاقات غير المُتكافئة بين بُلْدان المركز ( الدّول الإمبريالية) وبُلْدان « المُحيط » أو « الأطراف » ( الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية)، ويُتَرْجَمُ ذلك في اعتماد دُول الأطراف ( ومنها دول إفريقيا) على رأس المال الأجنبي ( الشّركات العابرة للقارّات ) لاستخراج ثرواتها الطّبيعية وتصْدِير الموادّ الخام ليتم تصنيعها وتحويلها في الخارج إلى آلات وتجهيزات يُعاد بيعها في بلدان المحيط بأضْعاف سعر تكلفتها، مما يُبْقِي بلدان الأطراف في حالة تَبَعِيّة للإستعمار الذي يحكمها بواسطة « نُخَب » مَحلِّيّة تابعة له.
لم تتمتّع شُعُوب إفريقيا بثرواتها المعدنية والزراعية والبحرية وغيرها، وبقيت القارة تُعاني من غياب برامج التنمية المُستدامة وانعدام الأمن الغذائي، ولا تزال منذ القرن السادس عشر، هدفًا لأطماع القوى الإستعمارية كالبرتغال وإسبانيا وبريطانيا سابقا، ثم حاليا الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا وتركيا والهند واليابان والكيان الصهيوني، واحتدّت المنافسة على ثروات إفريقيا بين القوى « الغربية » والصّين، وقلّصت الصين نشاطها والتزاماتها المالية تجاه أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، مما دفع العديد من الدول الأفريقية إلى البحث عن شراكات جديدة مع تركيا والهند والكيان الصهيوني والسعودية والإمارات…
إفريقيا في الأجندة الأمريكية سنة 2025
طرحت إدارة جورج بوش الإبن مشروع القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، وتم إنجاز وتنفيذ المشروع خلال رئاسة باراك أوباما الذي طرحت إدارته، قبل أكثر من عشر سنوات، برنامجًا لدعم الشركات الأمريكية التي تستثمر في مشاريع الطاقة والبنية التحتية في إفريقيا، بهدف منافسة الصّين، ولم يتحقق الشيء الكثير من تلك المشاريع – باستثناء تكثيف الحضور العسكري والإستخباراتي – إلى أن أعلن الرئيس دونالد ترامب، خلال شهر كانون الثاني/يناير 2025، قرار تعليق المساعدات العامة الأميركية بواسطة الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية، وتتضمن تلك « المُساعدات » برامج المنظمات « غير الحكومية » التي تُشرف على خطط الرّعاية الصحية وتعليم الأطفال، وإدامة التّبَعِية تجاه الولايات المتحدة التي تستفيد شركاتها من تمويل هذه البرامج، في ظل إهمال السلطات الإفريقية استراتيجيات التنمية، طيلة حوالي 65 سنة من الإستقلال…
زار باراك أوباما، خلال آخر رحلة رسمية له إلى قارة إفريقيا ( تموز/يوليو 2015 )، الحبشة وكينيا وكانت أهمية زيارة كينيا رمزية لأنها كانت موطن والده، ولم تطأ قدم أي رئيس أميركي أرضاً أفريقية منذ حوالي عَشْر سنوات، بعد تأجيل زيارة جوزيف بايدن إلى أنغولا التي كانت مقررة لشهر تشرين الأول/اكتوبر 2024، ولم يقم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة القارّة خلال فترة ولايته الأولى بين سنتَيْ 2017 و 2021، ولم يبد أي اهتمام بها – باستثناء الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية (كانون الأول/ديسمبر 2020) مقابل إقامة الرباط علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، ولم يستقبل دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأولى سوى رئيسَيْ نيجيريا (محمد بُخاري) وكينيا ( أوهورو كينياتا )، وزار مايك بومبيو، وزير خارجية ترامب، بين سنتَيْ 2018 و2021، إفريقيا ( السينغال والحبشة ) مرة واحدة، وأدّتْ زوجته ميلانيا زيارة « دبلوماسية وإنسانية » إلى كينيا، مرتدية خوذة استعمارية، وهدّد جون بولتون، مستشار الأمن القومي، الدّول الإفريقية التي لم تدعم الولايات المتحدة في الأمم المتحدة والقِمَم الدّولية، واعتبر إفريقيا – خلال خطاب ألقاه سنة 2018، بمؤسسة هيريتج المُغْرِقة في الرّجعية – مجرّد ساحة معركة اقتصادية ضد المصالح الروسية والصينية، ولم يأت دونالد ترامب على ذِكْر قارة إفريقيا أبدًا خلال حملته الانتخابية سنة 2024، بل ازدراها ووصفها ( مع هايتي ) في اجتماع في البيت الأبيض خلال شهر كانون الثاني/يناير 2018، بـ « الدول القذرة »…
تُركّز الحملات الإنتخابية الأمريكية على بعض جوانب الوضع الدّاخلي، لذلك كان شعار دونالد ترامب « لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى » انعكاسًا للشوفينية الأمريكية، ويَقِلّ اهتمام الجمهور الأمريكي بما يحدث في العالم، باستثناء الأحداث التي تُركّز عليها وسائل الإعلام السّائد اهتمامها، مثل تشويه الأنظمة والحكومات التي تختلف مع السلطات الأمريكية، وفق جيف هوكينز، السفير الأمريكي السابق لدى جمهورية أفريقيا الوسطى والباحث في معهد البحوث الوطنية والاستراتيجية (IRIS) « وعمومًا لم تكن أفريقيا موضع اهتمام لأن السياسة الخارجية الأمريكية تُركّز حاليا على فلسطين المحتلة ( الكيان الصهيوني) وإيران أوكرانيا والصين…
رحّب بعض رؤساء الدّول الإفريقية بفوز دونالد ترامب، بعد خيبة أملهم من الرئيس « الدّيمقراطي » جوزيف بايدن، وكانوا يأملون تعزيز التعاون الإقتصادي مع الولايات المتحدة، رغم شعار « لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى »، وكان سَحْب « المساعدات » الأمريكية لإفريقيا من أولوياته، غير إن أعضاء الكونغرس سواء من حزبه ( الحزب الجمهوري) أو من الحزب الدّيمقراطي، اعترضوا على مشروع القرار، مما سمح بالحفاظ على المبادرات الرئيسية والميزانيات المخصصة، وتم إنقاذ برنامج « ازدهار إفريقيا » الذي تُمَوِّلُهُ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، لأنه غير مرتبط بالبيت الأبيض، وهو لا يهدف في الواقع « مُساعدة إفريقيا » بل يهدف مواجهة التوسع الاقتصادي الصيني، مع الإشارة إلى حجم المُساعدات الصينية إلى قارة إفريقيا البالغ سبع مليارات دولارا سنويا، قبل تخفيضها منذ 2023…
تُمثل سياسات الهجرة وتقديم المنح الدّراسية مُؤشّرًا على العلاقات الأمريكية/الإفريقية، فقد أغلقت أوروبا حدودها، منذ حوالي ثلاثة عُقُود، ويعانى كذلك الآلاف من سياسة إغلاق الحدود الأمريكية في وجه البشر والسّلع القادمة من إفريقيا بذرائع « أَمْنِيّة »، وعلّقت وزارة الخارجية الأمريكية إصدار التأشيرات لمواطني ليبيا والصومال والسودان، منذ سنة 2027، ومواطني غانا سنة 2019، ومواطني تشاد أو نيجيريا سنة 2020، وانخفض عدد الطلاب الإفريقيين بالجامعات الأمريكية بنحو 50% خلال فترة رئاسة دونالد ترامب الأولى، وخفضت الولايات المتحدة تمويل بعض الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الأفريقية المُهتمّة بمجالات الصحة والتعليم وحماية البيئة، وتم توجيه هذا التمويل إلى مجموعات التبشير للمسيحيين الإنجيليين والجمعيات المناهضة للإجهاض…
تجدر الإشارة إلى تمسُّك دونالد ترامب بالدّور العسكري الأمريكي في إفريقيا وتعزيز هذا الدّوْر من خلال دعمه للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، التي بدأت نشاطها الفعلي سنة 2007 « لتنسيق الأنشطة الأمنية في القارة ودعم القتال ضد الجماعات الجهادية »…
مُساعدات أم استثمارات؟
تُعرّف قَوامِيس العلوم السياسية « المساعدات الدولية » كالتالي: هي المساعدات الطَّوْعِيّة المُقَدَّمَة إلى البلدان أو الشعوب الأجنبية، ويشير مفهوم المساعدات الدولية عمومًا إلى المساعدات الإنمائية الرسمية، والتي تشمل جميع المنح والقروض التفضيلية المُحَوَّلَة من ميزانية دولة « متقدمة » إلى دولة « نامية »، ويُستخدم مصطلح « المساعدات الدولية » لوصف المساعدات الإنمائية الرسمية التي تقدمها الدول أو المنظمات والمُؤسّسات الدولية مثل البنك العالمي والمساعدات المقدمة من قبل المنظمات الخاصة أو التشاركية أو الخيرية (المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدينية، إلخ)، وقد تشمل المساعدات في شكل تبرعات، نقدًا أو عينًا، وقروض بأسعار تفضيلية أو حتى إلغاء الديون، ويتضمن كلا المَفْهُومَيْن مساعدات التنمية الأكثر تحديدًا والتي تُفهم عمومًا على أنها مساعدات هيكلية متوسطة أو طويلة الأجل « لمعالجة أسباب التخلف »، والمساعدات الإنسانية أو حالة طوارئ تتكون من تقديم المساعدة قصيرة أو متوسطة المدى للاستجابة لتأثيرات كارثة طبيعية أو جائحة أو أمر طارئ، وبالتالي فالمساعدات الدولية متنوعة ويمكن أن تشمل برامج محو الأمية ممول من قبل منظمة غير حكومية باستخدام التبرعات التي تم جمعها من الجمهور، أو تحويل مالي مباشر من حكومة الدولة الغنية إلى الدّولة الفقيرة أو مساهمة في صندوق الأمم المتحدة أو حملة تطعيم ضد شلل الأطفال أو إرسال متعاونين، وقد تتضمن كذلك إلغاء الدّيْن العام أو قُوضًا بمعدل فائدة تفضيلي مع فترات سماح بالسداد خلال عدد من السنوات…
مهما تعدّدت التعريفات والمفاهيم بشأن المساعدات الدولية والتنمية، فإن الأسباب الاقتصادية هي الأسباب الرئيسية، وهناك ارتباط كبير بين تطور الفكر الاقتصادي السائد وتطور ممارسة المساعدات الدولية ومفهوم التنمية، ولا تتلقى الدّول التي يختلف نظامها السياسي مع الدّول الإمبريالية أي مساعدات ( مثل كوبا أو فنزويلا أو إيران ) بل تتجه « المساعدات نحو « البلدان النامية » التي تعلن ولاءها للإمبريالية وتُنفّذ المبادئ التوجيهية التي تفرضها الدّول الإمبريالية والمؤسسات المالية الدّولية…
من جهة أخرى، وجب التنبيه إلى دَوْر مجموعات الضّغط التي تُموّلها الشركات الكبرى وغُرف التجارة ونقابات أرباب العمل الفلاحي والصناعي والخدماتي والقادرة على توجيه مستويات وطبيعة وأهداف الدّعم ( الأمريكي أو الألماني على سبيل المثال) نحو البلدان التي تضم المواد الأولية أو أسواقًا تجارية واسعة وفئات وسطى ( فئة المُستهلكين) قادرة على شراء السلع الأجنبية المُستورَدَة، وتُقدّم بعض القُروض في شكل « مُساعدات » مقابل تلبية بعض الشروط كتحرير الأسواق وفتحها، وخصخصة المؤسسات العامة، وتقليص استثمارات الدولة، وتقليص حجم الخدمة المدنية، وهي جزء من « الإصلاحات الهيكلية »، وتريد هذه المجموعات – التي تستأثر بالمساعدات الحكومية من المال العام – استخدام « المساعدات » فتجعلها وسيلة لتوسيع مجال صادراتها إلى أسواق جديدة، مما يُعرقل نمو رأس المال المحلي بالدّول الفقيرة، أو للحصول على المواد الخام بأسعار منخفضة، في إطار التبادل غير المتكافئ بين « المركز » و « الأطراف »، وعمومًا تخضع « المُساعدات » الخارجية إلى ( وترتبط ب) أهداف الدول « المانحة » ومصالحها السياسية والإقتصادية والأيديولوجية…
أدّى تطبيق برامج التكيف الهيكلي الذي فرضه صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ( نيابةً عن الدّول الإمبريالية) منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين ( عقد حُكم مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغن في الولايات المتحدة ) إلى انهيار الخدمات العمومية في الدّول الفقيرة (« النامية ») وإلى الركود الإقتصادي وتراجع المؤشرات الاجتماعية، وزيادة الفقر، لأن المساعدات تخضع بشكل أساسي إلى معايير إيديولوجية وولاء حكومات الدّول المُتلَقِيَة « للمساعدات » لمانحيها من الدّول الإمبريالية، أي إن المساعدات تشترط الولاء العقائدي والسياسي، وفق جوزيف ستيغليتز الذي كان مديرًا بالبنك العالمي…
« المُساعدات » الأمريكية
تعد قارة إفريقيا المستفيد الرئيسي من المساعدات التي تقدمها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، حيث حصلت دول إفريقيا الواقعة جنوب الصّحراء الكبرى على نحو 11 مليار دولارا من ميزانية إجمالية قدرها أربعون مليار دولارا سنة 2023، من خلال المنظمات غير الحكومية أو الوكالات الدولية أو الاتفاقيات الثنائية، وكانت الحبشة وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية من المستفيدين الرئيسيين من هذا التّمويل الأمريكي، وهي ثلاث دول عانت من الصراعات المسلحة لعدة سنوات، ويعتمد سكانها إلى حد كبير على المساعدات الإنسانية للحصول على الرعاية الطبية والغذاء، وتمثل « المُساعدات الأمريكية في جنوب السودان نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقاً لأرقام مركز التنمية العالمية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، كما يتصدر قطاع الصحة قائمة استثمارات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في القارة، لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، ومن خلال برنامجها « بيبفار » وهي الخطة الطارئة للإغاثة من الإيدز، وتلقت دولة جدنوب إفريقيا التي تُعد من إحدى الدّول الأكثر تضرراً منه، مساعدات أميركية نحو 500 مليون دولار سنة 2023، أو 17% من الميزانية المخصصة لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، وقد يتوقّف تمويل مثل هذه البرامج الصّحّيّة سنة 2025، نتيجة لقرار خفض ميزانية ونشاط الوكالة الأمريكية للتعاون الدّولي في بلدان عديدة مثل نيجيريا وغانا وغيرها.
أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، يوم العاشر من آذار/مارس 2025، عن الانتهاء من مراجعة البرامج في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). وسيتم خفض 83% من المساعدات، وستكون بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أول المتأثرين بهذا « الإنسحاب » الأمريكي، لأنها ثاني أكبر منطقة متلقية لتمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على مستوى العالم (بعد أوكرانيا ( بنسبة 40% من ميزانيتها في سنة 2023 )،
كانت البلدان الخمسة التالية، الواقعة جنوب الصحراء الكبرى: الصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيريا وملاوي وموزامبيق هي البلدان التي استفادت أكثر من غيرها من مساعدات التنمية التي قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لإفريقيا سنة 2023، واستفادت منها ثلاثة مجالات رئيسية: المساعدات الإنسانية (47%)، والصحة (38%)، والتنمية الاقتصادية (8% )، وسوف تكون العواقب وخيمة لهذا الانقطاع المفاجئ لتمويل برامج الصحة ومكافحة الأمراض القاتلة للسكان المحليين.
بَرَّرَ دونالد ترامب تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بسياسته » « أمريكا أولاً » التي تهدف إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية المباشرة على حساب الشراكات الدولية الاستراتيجية، وسوف تتم إعادة التفاوض على الاتفاقيات الاستراتيجية مع البلدان الأفريقية، بهدف ترجيح المصالح الأمريكية، والحصول على مزايا اقتصادية وتجارية، وخاصة في قطاع المعادن.
تصدر ست دول أفريقية جنوب الصحراء الكبرى( جنوب إفريقيا ونيجيريا وغانا والنيجر وليبيريا وتوغو) سلعًا إلى الولايات المتحدة، وستكون هذه البلدان عُرْضَةً بشكل خاص للتعريفات الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة التي قد تُخاطر بتعريض الموقف الاستراتيجي لأميركا لمنافسة الصين، لكن لا تبدو قارة إفريقيا حاليا من بين الأولويات الدبلوماسية لدونالد ترامب، حيث لم يتم ذكر هذه القارة التي يبلغ عدد سكانها 1,4 مليار نسمة مطلقًا خلال حملته الانتخابية، ولكن أحد أول قراراته كرئيس كان تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تقريباً، وهو قرار يؤثر اليوم على أفريقيا أكثر من أي منطقة أخرى في العالم.
تُعاني « مناطق الصراع »، وخاصة المنطقة المحيطة بالصحراء الكبرى، من عدم الاستقرار والعنف المُسْتَمِرَّيْن. من مالي إلى النيجر ونيجيريا والسودان والحبشة والصومال، حيث تنفذ المنظمات الإرهابية المسلحة هجمات منتظمة، كما تتميز منطقة البحيرات الكُبْرى، وخصوصًا جمهورية الكونغو الديمقراطية، بالاشتباكات بين الفصائل المختلفة، والتي غالبا ما تغذيها التنافسات والصراعات على السيطرة على الموارد الطبيعية، مما يؤدّي إلى خسائر بشرية كبيرة وتحديات أمنية ونزوح السكان وتعطيل الحياة الطبيعية وحرمان السكان المحليين من العيش في مناطقهم الأصلية والتمتع بثرواتهم، وأدّت هذه الصّراعات المسلّحة إلى انعدام الأمن الغذائي الشديد في العديد من الدول الأفريقية، وبدل العمل على وقف الحروب وجشع الشركات العابرة للقارات، قدّمت الدّول الإمبريالية وإعلامها هذا الوضع كنتيجة طبيعية لتخلف إفريقيا وأهلها، وتم التركيز على « المساعدات الدّولية الإنسانية » وبالأخص « المساعدات الأميركية »، وحصلت دول مثل نيجيريا وجنوب السودان وجمهورية الكونغو على أكثر من 50% من مساعدات التنمية الخاصة بها من الولايات المتحدة، سنة 2023
تدهور الوضع في القارة
يشكل التضخم والديون العامة ضغوطا شديدة على ميزانيات الدول الأفريقية، ففي موزمبيق، يتم تخصيص 20% من الإنفاق العام لسداد فوائد الديون، ويتم إنفاق 7% فقط من الإنفاق العام على الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى، وسوف يُؤَدِّي قرار إلغاء الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) إلى تفاقم الوضع الهش، في حين أن الحبشة متخلفة عن سداد ديونها، وتواجه موزمبيق صعوبات هائلة بعد أن تضاعفت ديونها ثلاث مرات خلال عشرين عاما، وسوف يُؤَدِّي ارتفاع الأسعار وقرار خفض أموال المساعدات الدّولية يجعل الوضع الصحي في البلدان الأفريقية أكثر خطورة،ولقد كانت للحرب في أوكرانيا عواقب وخيمة على أفريقيا التي تعاني من ديون عامة مرتفعة للغاية، وقد أدى سياق هذه الحرب في أوكرانيا إلى سباق إعادة التسلح الذي صاحبه خفض الإنفاق الاجتماعي والأموال المخصصة للمساعدات للدول النامية، وأصبحت شعوب أفريقيا ضحايا جانبية لهذه الحرب وللوضع الدولي، لأن الحرب أدت إلى تفاقم الوضع التضخمي مع ارتفاع أسعار المواد الخام والوقود والمنتجات الغذائية وغيرها.
لقد أدى سباق التسلح في الدول الغربية إلى خفض المساعدات للاجئين من الحروب وخفض تمويل برامج الرعاية الصحية وتنقية المياه وتضررت سيراليوني وجنوب السودان من خفض بريطانيا مساعداتها الدّولية بنسبة 50% قبل قرار الحكومة الأميركية تجميد المساعدات الخارجية للمنظمات الإنسانية التي تساعد آلاف اللاجئين في أفريقيا، مما اضطرها إلى تسريح مئات من العاملين المحليين في برامج مكافحة الإيدز والسل والملاريا، ولن يتم القضاء على مشاكل إفريقيا من خلال « المُساعدات » المسمومة التي يوقفها « المانحون » متى عَنَّ لهم، غير إن إلغاءها الفجئي يُخلّف مشاكل عديدة، فيما تحتاج أفريقيا تحتاج إلى استثمارات وبرامج تنمية حقيقية لأن « المُساعدات » الدّولية لا تهدف مساعدة الشعوب على تحرير أنفسهم، بل تهدف إبقاءهم تحت سيطرة الدول المانحة، مثلما وَرَد في دراسة نشرتها المجلة الفصلية ( ربيع 2025) لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)، ويُشكل القرار الأمريكي بتعليق معظم أعمال الوكالة الأمريكية للتعاون الدّولي فرصةً للتفكير في أوجه القصور في نظام المساعدات الدولية، والحلول والملائمة لتعويض « المساعدات » الخارجية للبلدان منخفضة الدخل التي لا تخدم سوى مصالح « الجهات المانحة »، بحلول مُستدامة منبثقة من الواقع المَحَلِّي، تتضمن الاستثمارات الاستراتيجية والتجارة العادلة والتمويل الميسر ( وليس « المساعدات » )، ولا يمكن التعويل على المؤسسات المالية الدّولية لتمويل برامج التنمية ولإحداث تغييرات اقتصادية هيكلية في البلدان النامية، فقد رفضت المؤسسات المالية الدّولية دعم وتمويل إنشاء المصرف الإفريقي للطاقة الذي بادرت نيجيريا وليبيا وأنغولا إلى إنشائه، وتذرعت تلك المؤسسات المالية بحماية البيئة، ويهدف مشروع المصرف الإفريقي للطاقة إلى تعميم توزيع النفط والغاز والكهرباء، حيث لا يحصل نحو 600 مليون شخص، أو 43% من إجمالي سكان إفريقيا على الكهرباء، ويعيش أغلبهم في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، كما رفضت نفس المؤسسات تمويل تعاونيات المزارعين وحِرَفِيِّي الصناعات التقليدية في العديد من بلدان إفريقيا…
« المساعدات الإنسانية » مجرد واجهة للإستعمار الجديد
يُقَدّر سكان إفريقيا بنحو 1,4 مليار نسمة، وقُدِّرت قيمة « المُساعدات الإنمائية » التي تحصل عليها الأنظمة الحاكمة في إفريقيا بنحو ستين مليار دولارا، من بينها عشرين مليار دولارا من الولايات المتحدة، بينما تُقدّر قيمة صادرات المواد الخام من إفريقيا نحو الدّول الغنية بنحو 610 مليار دولارا سنويا، أي إن قيمة الثروات المنهوبة من إفريقيا تفوق عشرة أضعاف « مُساعدات التّنمية » المُصَنّفة « تبرعات » والتي تسبب إلغاؤها من قِبَل الولايات المتحدة في فوضى كبيرة في قطاعات التعليم والصّحة فِي بلدان إفريقية عديدة اعتادت التّرويج لثقافة البُؤس والصّدَقة والدفاع عن المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدّولي الذي تكون قُرُوضُهُ مشرُوطَةً بمعايير لا تستجيب لمتطلبات التنمية ولا تترك سوى مساحة ضئيلة للإستثمار الذي يتم تقليصه إلى الحد الأدنى…
يزعم صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي، منذ أكثر من ست عُقُود « إن الإدارة الجيدة للمالية العامة تشكل أحد الشروط لجذب الاستثمار الخاص وتنمية الاقتصاد » لكن هذا الخطاب الذي يُركز على موازنة الحسابات العامة، لم يُعْطِ نتائج إيجابية لأنّه لا يرتكز على واقع تلك البُلْدان، مثل غانا التي وقعت حكوماتها 17 اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، ولكن اقتصادها لم يتحسّن وغابت التنمية المَوْعُودة، بلأصبحت الدّولة في حالة عجز عن السّداد بنهاية سنة 2022، لأن مؤسسات بريتون وودز ليست مصممة لمساعدة البلدان ( الإفريقية وغير الإفريقية) على التخلص من الفقر، بل إن قراراتها سياسية، وتفرض برامجها استراتيجيات تنموية خاطئة، ولا تخدم قرارات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي مصالح بضع عشرات من الشركات الرأسمالية « الغربية »، خلافًا للإستثمارات والقُروض الصينية غير المَرْفُوقة بشروط سياسية.
تحتاج أفريقيا إلى تصفية آثار الإستعمار وإدارة شؤونها بنفسها، وإلى الدعم والمساعدة غير المتحيزة والملموسة والمناسبة لسياق كل بلد من بلدانها، وبعضها يضم ثروات هائلة لا تعود بالنّفع على أغلبية السّكّان، وتتطلب تنمية أفريقيا قدراً كبيراً من مشاركة المواطنين، إذ لا يكفي إلغاء الدَّيْن أو بناء مدرسة، إذا لم تتوفر الموارد اللازمة لتوفير الرعاية الصحية والأطباء والمدارس والمعلمين، وبالتالي وجبت معالجة جذور المشاكل الحالية والأزمات التي تعيشها مختلف البلدان الإفريقية…
تقوم العديد من البلدان الغنية بتوزيع المساعدات النقدية على أفريقيا وتجبرها على استخدام هذه « المساعدات » في شراء الإنتاج الأوروبي أو الأمريكي، وتمارس في ذات الوقت سياسة الحماية الجمركية التي تُقصي إنتاج إفريقيا، لصالح قطاعات الصناعة والزراعة في البلدان الغنية، أي دعم الشركات الإحتكارية العابرة للقارات لجعلها أكثر قدرة على المنافسة، وهذا يشكل عقبة رئيسية أمام تقدم البلدان الفقيرة، حيث أن الوصول إلى هذه الأسواق أكثر صعوبة بالنسبة لها…
تُغذِّي « المُساعدات الدّولية » عَقْلِيّة ( ثقافة؟ ) الإعتماد على الغَيْر، ولا تهدف « المُساعدات » توفير حياة كريمة للشعوب الأخرى، بل غالبًا ما تكون المساعدة مقيدة بشروط مجحفة لأن الدّول التي تُقدّمها لا تفعل ذلك بإيثار، بل « لغايةٍ في نَفْسِ يعقوب »، أي لتعزيز مصالحها الاقتصادية والأيديولوجية، وسيطرتها علىلا الأنظمة السياسية المُستفيدة من فُتات « المثساعدات القاتلة » ( أو « المسمومة » ) على رأي الخبيرة الاقتصادية الزامبية دامبيسا مويو (كتاب « المساعدة القاتلة – 2009 » ). بَيَّنَ القرار الأمريكي بشأن وقف مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية ضرورةَ التحول من نموذج غير مستدام للمساعدات إلى نظام يعزز المشاريع المحلية وتقرير المصير، وتوفير الغذاء والأدوية والسّكن والنّقل والكهرباء بأسعار معقولة…

مكانة إفريقيا في الأطماع الدّولية سنة 2025 : الطاهر المعز
بعض مظاهر التّغْيِير– الجزء الثاني
نحو إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية لصالح الصين
بدأ النفوذ الأوروبي في أفريقيا يتضاءل تدريجياً، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، بالتوازي مع زيادة نفوذ الصين وزيادة المنافسة الأمريكية لفرنسا والإتحاد الأوروبي، ويسعى دونالد ترامب في المقام الأول إلى مواجهة نفوذ الصين، ولكن تجميد « المساعدات » الأميركية يؤدي إلى تفاقم زيادة « الإنسحاب الغربي » وتعزيز نفوذ الصين التي تركت بصمتها على الصعيد الاقتصادي، خلال عقدَيْن، فكانت – سنة 2003 – الشريك التجاري الرائد لأربع دول أفريقية، وأصبحت الشريك التجاري الرائد لسبع وعشرين دولة سنة 2023، في عام 2023، وارتفعت حصتها في تجارة القارة الأفريقية من 5% سنة 2003 إلى 16% سنة 2023، في حين انخفضت حصة الولايات المتحدة من 11% سنة 2003 إلى 5% سنة 2023، وتراجع نفوذ الغرب في أفريقيا، سواء الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو العسكري وتراجعت حصة فرنسا من 10% سنة 2003 إلى 5% سنة 2023، فيما ارتفعت استثمارات الإمارات في قطاع المعادن واستثمارات روسيا في البلدان الثلاث التي تغيرت بها أنظمة الحكم ( بوركينا فاسو والنيجر ومالي)
مثل غياب وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن الاجتماع الوزاري لمجموعة العشرين في جوهانسبرج (19-20 شباط/فبراير 2025) هذا النهج الجديد الذي تنتهجه الولايات المتحدة في أفريقيا وإشارة دبلوماسية وسط تصاعد التوترات التجارية والسياسية وتراجع النفوذ الأميركي الذي يترك الطريق مفتوحا أمام الصين في إفريقيا، وكانت الصين تركز على استغلال الموارد المعدنية الأفريقية قبل أن تطرح مع السلطات الإفريقية قضايا التنمية الاقتصادية التي برزت خلال القمة الصينية الأفريقية ( بكين – أيلول/سبتمبر 2024) حيث أعلنت الصين استثمار خمسين مليار دولارا في إفريقيا مما يُهدّد الولايات المتحدة بفقدان نفوذها في القارة الأفريقية.
استثمرت الصين مع إطلاق مشروع طريق الحرير الجديد سنة 2013 نحو 85 مليار دولار سنويا خارج حدودها، ويعادل هذا المبلغ ضعف إجمالي « المساعدات » الإنمائية الرسمية التي تلقتها أفريقيا خلال هذه الفترة، وفق دراسة نشرها معهد الأبحاث التابع لجامعة وليام وماري في الولايات المتحدة، ويتضمن هذا المبلغ ديون البلدان المتلقية، بدءاً بالدول الأفريقية، لأن الصين تدعم شركاتها مثلما تفعل الدّول الإمبريالية « الغربية »، فقد توجّهت نحو 70% من القروض الصينية في الخارج إلى شركات ومصارف مملوكة للدولة وإلى مؤسسات خاصة في الدول المستفيدة، وبالتالي، فإن هذه الديون، في معظمها، لا تظهر في حسابات هذه الدّول، وبمناسبة انعقاد النسخة الثامنة من منتدى التعاون الصيني الإفريقي ( داكار – تشرين الثاني/نوفمبر 2024) دعا وزير الاقتصاد السنغالي أمادو هوت الصين إلى إقامة علاقات أقل تركيزا على الديون وأكثر فائدة للاقتصادات الأفريقي، وأعلن المسؤولون الصينيون المُشاركون في المنتدى إن الصين أقرضت دولاً وشركات أفريقية بقيمة 153 مليار دولار بين سنتَيْ 2000 و2019
تقهقر أوروبي وتقدّم روسي
كانت المراكز الثقافية السوفييتية، قبل انهيار الإتحاد السوفييتي، فضاءً علميا ومكتبة ثرية للمطالعة ومدرسة لدراسة اللغة والثقافة والحضارة السوفييتية، وخفتت هذه المراكز، ثم عادت روسيا منذ حوالي عشر سنوات إلى الإهتمام بقارة إفريقيا، وخصوصًا منذ تراجع النفوذ الفرنسي والأوروبي، وأنشأت روسيا مراكز تُسمّى « البُيُوت الرّوسية » (Rossotrudnichestvo ) للترويج للفنون واللغة والثقافة الروسية، وبينما أغلقت دول الإتحاد الأوروبي حدودها أمام الطّلاب الإفريقيين، يدرس ما يقرب من 34 ألف أفريقي في روسيا للعام الدراسي 2024-2025، يتمتعون ب »منحة التعاون » من روسيا وفقا للسلطات الروسية، مقابل 57 ألف طالب أجنبي ( ممنوحين أو غير ممنوحين) في الولايات المتحدة و 282 ألف في دول الإتحاد الأوروبي، وتُتابع روسيا الحياة المهنية للخرّيجين من جامعاتها وتدعمهم وفق شهادات بعض الخريجين الذين استجوبتهم إذاعة فرنسا الدّولية ( RFI ) بهدف « تعزيز النظرة الإيجابية لروسكي مير أو العالم الرّوسي (russkiy mir ) في البلدان الإفريقية »، فضلا عن نشر الثقافة والتاريخ واللغة الروسية في هذه البلدان، بهدف إنشاء روابط عميقة ودائمة مع الجمهور الأفريقي، ونشرت صحيفة « الحياة الدّولية »، صحيفة وزارة الخارجية الروسية، مقالات وصور عديدة عن المُظاهرات في إفريقيا، والشعارات المندّدة بالسياسة الأوروبية (الفرنسية بشكل خاص) والأمريكية، وحمل العديد من المتظاهرين العلم الرّوسي، وتعترها مُؤشِّرًا لتوسّع مجال النفوذ الروسي، رغم الدّعاية السلبية المتواصلة التي تنشُرُها وسائل الإعلام الغربية…
الإتفاقيات العسكرية
عندما أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا كان يوجد نحو خمسة آلاف عسكري في المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا الغربية، وفق الأرقام الرسمية، وتذرّعت فرنسا بالإرهاب في المنطقة المحيطة بالصّحراء للتّدخّل المباشر في ما لا يقل عن خمس بلدان إفريقية، وتَصَرَّفَ الجيش الفرنسي كالجيوش الغازية، دون احترام السّكّان المحلِّيِّين ولا الحكومات الإفريقية، فيما زادت وتيرة الإرهاب ضد سُكّان مالي والنّيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا وغيرها، وتوسّعت رقعة العمليات الإرهابية لتشمل منطقة تمتد على حوالي خمسة ملايين كيلومتر مربع، كما شَدّدت السّلطات الفرنسية شُروط تأشيرة دخول فرنسا للسائحين والمُثقفين والطلبة والعمال الإفريقيين، بل تكثّفت الحملات العنصرية في فرنسا ضد الإفريقيين، ما عَمّق الشّرخ بين السّلطات الفرنسية والجاليات الإفريقية المُهاجرة وكذلك مع حكومات جل دول إفريقيا الغربية والوُسْطى، قبل وبَعْد انقلابات مالي والنّيجر وبوركينا فاسو…
أعلنت تشاد خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر2024 إنهاء اتفاقيتها العسكرية مع فرنسا، لتطيح بأحد أقدم أركان النفوذ الفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء، لأن الجيش الفرنسي كان يعتمد على الجيش التشادي لتنفيذ « المُهِمّات القَذِرَة »، وكانت البلاد مركزاً لوجستياً للعمليات العسكرية الفرنسية جنوب الصّحراء الكُبْرى، وظلت معقلاً أساسياً لفرنسا بعد إخراج جيشها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، قبل أن تفقد فرنسا تواجدها العسكري في السنغال وكذلك في آخر معاقلها: ساحل العاج.
من جهة أخرى يُمثل انسحاب القوات الفرنسية من تشاد مُفاجأةً لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان الرئيس الوحيد غير الإفريقي الذي حضر حفل تنصيب ديبي الإبن بعد وفاة والده في حادث طائرة سنة 2021، غير إن الجيش الفرنسي كان – على غير عادته – غائبًا عن عمليات مُطاردة الجيش التشادي والنيجيري عناصر مجموعة « بوكو حرام » على طول الحدود النيجيرية، خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتمكّنت فرنسا، من خلال قواعدها في تشاد وشبكات الخُبراء العسكريين والفَنِّيِّين والمُستشارين، من التّدخّل في غرب السّودان (دارفور) وقد تخسر فرنسا نفوذها في المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر – لكن لا يزال الفرنك الإفريقي العملة الرسمية لعدد من المُستعمرات الفرنسية السابقة – لتحل محلها الصين أو روسيا أو تركيا، وخصوصًا الولايات المتحدة التي تُفاوض سلطات تشاد في الكواليس لعودة القوات الخاصّة الأمريكية إلى تشاد، بعد أن استدعت أفرادها خلال شهر نيسان/أبريل 2024، فضلا عن دول أخرى تنتمي إلى الإتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا التي عزّزت علاقاتها الإقتصادية لتصبح ألمانيا أكبر مُصدِّر أوروبي إلى إفريقيا فيما تعمل هولندا منذ سنة 2023 على إحياء شركة الهند الشرقية كأداة للتّوسّع الإستعماري، وأقرت إيطاليا « خطة ماتِيِّي » فيما وقّعت إسبانيا عدّة اتفاقيات مع دول إفريقية لوقف تدفق المهاجرين غير النّظاميين…
وقد تتَبَنّى السلطات الفرنسية التّدخّل عبر الطّائرات الآلية و »القوات الخاصة » بديلا عن القواعد العسكرية الثابتة والتدخّلات التقليدية بواسطة المرتزقة، إلى أن تتخلّى الدّول الإفريقية عن الفرنك الإفريقي ( CFA ) ويَنْحَلّ الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا ( ثماني دول) و مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس)، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا ( ست دول ) وهي آخر مظاهر الحقبة الاستعمارية التي لا تراعي سوى مصلحة فرنسا وشركاتها ومصارفها وآخر مظاهر النّفوذ الفرنسي في إفريقيا الغربية والوُسْطى الذي تمكّنت السلطات الفرنسية من المحافظة عليه بواسطة الفرنك الإفريقي والإنقلابات والإغتيالات والرّشاوى والُعُمُولات واستنزاف المال العام من خلال تَهْريب الثروات ورؤوس الأموال، وأدّت الهيمنة الفرنسية إلى إبقاء التجارة البَيْنِيّة بين دول منطقة الفرنك الإفريقي ضعيفة لا تتجاوز 15% من حجم تجارة البلدان الأعضاء ( أكثر من 60% بين البُلدان المُنْتَمِيَة لمنطقة اليورو، على سبيل المُقارنة) ولا تزال اقتصادات الدول الأعضاء تعتمد على صادرات المواد الخام إلى الأسواق الدولية، ولم تستفد سوى الشركات الفرنسية التي سيطرت على اقتصاد البلدان الناطقة بالفرنسية ومجموعة الفرنك الإفريقي الذي شكّل أداة للسيطرة الفرنسية حيث لا تتجاوز واردات فرنسا من هذه البلدان نسبة 10% من إجْمالي الواردات الفرنسية…
تحولت الإحتجاجات ضد الإمبريالية الفرنسية من تململ صامت إلى احتجاجات علنية منذ قرابة عشر سنوات إلى أن ظهرت حركة بالي سيتويين في بوركينا فاسو وائتلاف باستيف في السنغال، غير إن البديل لم يتبلْوَر بَعْدُ، حيث لا يزال الفرنك الإفريقي سائدًا في غياب مشروع عُمْلَة مُشتركة، ولم يتحقّق الإندماج الإقتصادي والتّجاري الإقليمي، مما يُعسّر عملية القَطْع مع النظام الذي لا يزال سائدًا منذ عقود…
من جهة أخرى لا تُشكّل الدّول التي طلبت سحب القوات الفرنسية كُتْلَةً مُتجانسةً، وحذّرت الأحزاب التّقدّمية الإفريقية من إعلان بعض الأنظمة المدعومة من فرنسا ( مثل تشاد وساحل العاج ) سحب القوات الفرنسية – دون إعلان التّخلِّي عن الإتفاقيات العسكرية لسنة 1961 مع بلدان عديدة منها السنغال وساحل العاج وتشاد والغابون وغيرها، بعد خسارة قواعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر – وقد يستجيب هذه القرارات لاستراتيجية جديدة للإمبريالية الفرنسية والمتمثلة في إخفاء وجودها العسكري من خلال إنشاء « مواقع مُتقدّمة » صغيرة الحجم، بَدَل القواعد الثابتة، مع القيام بمناورات أو تدخّلات بطلب من الحكومات المحلية…
استغلّت الولايات المتحدة غضب الشعوب الإفريقية ضدّ فرنسا، فارتفعت وتيرة نشاط القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) ووقعت وزارة الحرب الأمريكية مع دولة بِنِين ( المتاخمة لبوركينا فاسو) اتفاقية تعاون عسكري ( تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، وفق النّاطق باسم رئيس دولة بنين الذي ذكَّرَ بأنها تحديث للوثيقة الموقعة الاتفاقية بين البلدين سنة 2009، التي تتعهّد الولايات المتحدة بموجبها بتقديم الدعم اللُّوجيستي في سياق المناورات المشتركة والعمليات وتدريب القوات ونشرها وتأمين خدمات التوريد والدعم، خصوصًا أثناء الفترات « الحَرِجَة »، ونقلت الولايات المتحدة إلى بنين، قبل نهاية سنة 2024، 12 ناقلة جند مدرعة و280 لوحة مدرعة و35 جهاز راديو تكتيكي بقيمة 5,6 مليون دولارا، ويُخطّط الجيش الأمريكي لبناء موقع تدريب على القتال في المناطق الحضرية، تضم أبراج مراقبة وناقلات جُنود وطائرات هجومية، وبناء موقع مماثل في شمال شرق عاصمة السنغال بتكلفة 45 مليون دولار، وفق وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ الثامن من كانون الثاني/يناير 2025، فضلا عن إعلان قائد أفريكوم عن عُقُود مع بلدان إفريقية أخرى، في إطار « محاربة الإرهاب في غرب إفريقيا » حيث سيتدرّب الجنود الأمريكيون في مناطق تُشبه أحياء المُدُن الإفريقية على مراقبة المدنيين من خلال أبراج حراسة ونقاط تفتيش، وعلى تنفيذ المُداهمات اللّيلية والاعتداءات والاختراقات وكسْر الأبواب والنّوافذ ومراقبة الأسواق ونسف الأنفاق وخطوط الأنابيب…
تصنف الوثائق الحكومية الأمريكية ( وزارة الخارجية ووزارة الحرب ) السنغال على أنها « الحارس الرئيسي للسلام في غرب أفريقيا »، وتقوم بتدريب جنود السنغال منذ حوالي ستة عقود ( دون المساس بالنفوذ الفرنسي الكبير في السنغال) وتشارك وحدات حلف شمال الأطلسي في تدريب جنود السنغال بالقاعدتَيْن الأمريكِيّتَيْن، إحداهما قاعدة بحرية، وأبرم البلدان سنة 2016، اتفاقيات تسمح للقوات الأمريكية بالبقاء في الإقليم دون حد زمني، لمراقبة الوضع الأمني، خصوصًا على الحدود مع مالي، وأشادت وزارة الحرب الأمريكية بالشراكة طويلة الأمد مع القوات المُسلّحة السنغالية، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عَرْضًا لبناء « مدينة سنغالية ( أو إفريقية ) مُصغّرة للتدريب العسكري في ضواحي العاصمة داكار تحتوي على مرافق وثكنات في الهواء الطلق ومباني سكنية ومدرسة وعيادة طبية وكنيسة واسعة ومسجد، بالإضافة إلى متاجر بيع بالتجزئة تشبه المرآب ومبنى إداري حكومي محاطًا بجدار أمني، وشبكة طرق منفصلة وأماكن لوقوف السيارات، للتدريب على تنفيذ العمليات العسكرية الحضرية وعمليات حماية المدنيين… »، ويُشبه هذا المشروع مركزًا لحلف شمال الأطلسي، تم إطلاقه في كازاخستان خريف سنة 2023.
يُعتَبَرُ هذا التعاون العسكري مُكمّلا للتعاون الاقتصادي، حيث تُحاول الشركات الأمريكية استخدام السنغال « لاختراق الأسواق الأفريقية الأخرى »، وحصلت الشركات الأمريكية، منذ سنة 2018، على عُقود لبناء الطرقات وشبكات الطاقة وغيرها من البنية التحتية اللازمة للشركات الأمريكية في السنغال والبلدان المجاورة ( موريتانيا وغامبيا وتوغو…) بقيمة ستمائة مليون دولارا…
أعلن رئيس وزراء السنغال (عثمان سونكو) خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 إن الحكومة ستغلق جميع القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد سنة 2025، لكن الولايات المتحدة بصدد تعزيز وجودها العسكري في ضواحي العاصمة داكار وفي مدينة « تيِيسْ »، وهي استثمارات ستحصل منها الولايات المتحدة على عوائد، وأعلنت الولايات المتحدة منذ 2022، استبدال القواعد العسكرية الثابتة ووجودها العسكري الدائم ببرامج أمنية مختلفة، كجزء من استراتيجية وطنية متكاملة لتعزيز برنامج أفريكوم، ولا تقتصر الأنشطة الأمريكية في السنغال على المبادرات العسكرية، ففي 25 أيلول/سبتمبر 2024، التقى وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن قادة البلاد، حيث أعلن عن مساعدات إضافية بقيمة خمسة ملايين دولار لمكافحة الفساد، وفي الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2024، التقى مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع 85 ممثلًا عن « مجتمع الأعمال السنغالي » في مدينة « تييس »، حيث يرغب الأمريكيون في بناء مركز تدريب عسكري ، وأعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إنها نفذت في منطقة تييس 23 مشروعًا تبلغ قيمتها حوالي 11 مليار فرنك أفريقي (17,3 مليون دولار) خلال خمس سنوات، وهي مشاريع متنوعة في مجالات الصحة والاقتصاد والأمن الغذائي، ومن المعروف إن الإمبريالية الأمريكية لا تستثمر أبدًا دون التأكد من الحصول على مكاسب تفوق قيمته أضعاف الإستثمار، وتخطط الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لاستثمار ما يقرب من 130 مليون دولار إضافية في السنغال، ونقلت الولايات المتحدة، يوم السابع من كانون الثاني/يناير 2025، معدات تبلغ قيمتها حوالي 450 مليون فرنك أفريقي (حوالي 750 ألف دولار) إلى قوات الدرك الوطنية السنغالية، لتتمكّن الولايات المتحدة من الإشراف على نظام الأمن والمراقبة وعلى نشاط الشرطة والدرك.
إنتاج الذّهب في إفريقيا الغربية
تحاول حكومة مالي ( إحدى أفقر دول العالم وثالث أكبر منتج إفريقي للذّهب) الضّغط على شركات التّعدين العاملة بالبلاد وصادرت ثلاثة أطنان من الذهب، بقيمة 260 مليون دولار كندي، من شركة التعدين العابرة للقارات كَنَدِيّة المَنْشأ « باريك غولد » التي تخوض نزاعًا طويلاً مع حكومة مالي بشأن توزيع الإيرادات، واتخذت حكومة مالي إجراءات قانونية ضدّ المسؤولين التّنْفِيذِيِّين لشركة « باريك غولد » بتهمة عدم إعادة إيرادات كافية إلى البلاد، وأصدرت محكمة بريطانية مذكرة اعتقال بحق « مارك بريستو »، الرئيس التنفيذي للشركة الكنَدِيّة بتهمة غسيل الأموال.
تُعَوِّلُ حكومة مالي كثيرًا على إيرادات قطاع التّعدين، وتسعى مع بعض الحكومات الإفريقية الأخرى ( النيجر و بوركينا فاسو و السنغال… ) إلى تعزيز مواردها من خلال الاستفادة من الثروة المعدنية التي تزخر بها البلاد، لتحسين إيرادات الدّولة ومواجهة ارتفاع معدلات الفقر ومخاطر الجوع، وتعدّدت النزاعات بين العديد من الحكومات الإفريقية – من بينها مالي – وشركات التّعدين الأجنبية العابرة للقارات بشأن مدفوعات الضرائب من قبل الشركات الأجنبية، مما أجْبَر حكومة مالي على انتهاج الصّرامة تجاه مسؤولين تنفيذيين من شركة باريك غولد الكَنَدِية و شركة ريزولوت مايننغ الأسترالية، بهدف استعادة السيطرة على الموارد الطبيعية للبلاد وزيادة عائدات الضرائب، واقترحت شركة باريك غولد دفع مبلغ من المال للحكومة، لكن تعثرت المفاوضات للتوصل إلى حل ودي.
في ساحل العاج المُجاورة لمَالِي، يُقدَّرُ حجم احتياطي الذّهب بنحو ستمائة طن وتُسيطر شركة « كولو غولد » العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الكَنَدِي على نحو 90% من إنتاج البلاد، بعد توقيع عقد لاستغلال منجم « أسوفري » الذي يحتوي على كمية كبيرة من رواسب الذّهب، لتُسَيْطِرَ هذه الشركة على مساحة قدرُها 1900 كيلومترا مربعا، وتريد حكومة ساحل العاج مضاعفة إنتاجها من الذهب، لكن عمليات الإستكشاف والتنقيب تتطلب استثمارات كبيرة، فوقَّعت العديد من عُقُود الإستكشاف والدّراسات الجيوفيزيائية مع شركات التعدين الأجنبية ( معظمها أسترالية وكندية) في منجم « أسوفري » و « أسافو »، وفي مَشْرُوعَيْ « ساكسو » و « كوتو »…
منطقة الصَّحْراء الكُبرى ( أو « السّاحل »)
نظرًا للإرتفاع الكبير لسعر الذّهب في الأسواق الدّولية،طالبت السّلطة في مالي بإعادة التفاوض على العقود، فيما راجعت حكومة بوركينا فاسو قانون التعدين، وصادرت 200 كيلوغرام من الذهب من منجم تديره شركة كندية. أما حكومة النيجر فقد علّقت تصاريح استخراج اليورانيوم لشركة أورانو الفرنسية.
اعتقلت سُلُطات مالي المُدير التنفيذي لشركة ريزولوت ماينينغ الأسترالية، لفترة 12 يوما في العاصمة باماكو، ويبدو هذا الإعتقال بمثابة تحذير لمجموعات التعدين الأجنبية العاملة في مالي وفي جميع أنحاء منطقة « الساحل » ( المنطقة المُحيطة بالصّحراء الكُبْرى ) وتم الإفراج عن البريطاني تيرينس هولوهان وموظفين آخرين في شركة ريزولوت التي تدير منجم الذهب سياما في جنوب مالي يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بعد التوصل إلى اتفاق ينص على دفع 160 مليون دولار للحكومة المالية لتسوية نزاع مالي، وفي نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2024، قضى عدد من كبار المسؤولين الماليين في شركة « باريك غولد » الكندية الكبرى، والتي كانت أيضا في نزاع مع سلطات البلاد، عدة أيام في السجن، ما جعل مسؤولي الشركات الأجنبية يشعرون بتغيير في تعامل سُلُطات هذه البلدان مع رأس المال الأجنبي الذي أصبح مُمثِّلُوه حَذِرِين، ويُحلّلون المخاطر المُحْتَمَلَة، بعدما كانوا يَرْتَعُون في هذه البُلْدان ويَتصرّفون بحرية لا قُيُودَ لها، ويُمارسون النّهب وتهريب الأموال إلى الخارج والتّهرّب من تسديد الضّرائب…
تُحاول السّلطات الجديدة في بلدان إفريقيا الغربية، والمُستعمرات الفرنسية السابقة، السيطرة على الثروات الطّبيعية، وتحاول حكومة مالي تحسين شروط استغلال عائدات صناعة التعدين، وقدّم الرئيس أسيمي غويتا سنة 2023، مشروعًا لإصلاح قانون التعدين ورَفْع حصّة الدولة إلى نحو 30% من الأسهم في المشاريع الجديدة وتقليص المزايا الضريبية للشركات الأجنبية، كما طالبت الحكومةُ الشركاتِ بإعادة التفاوض على العقود الحالية، بغض النظر عن الاتفاقيات المبرمة مع الإدارات السابقة، على خلفية الارتفاع المستمر في أسعار الذهب، الذي تُعَدُّ مالي ثالث أكبر منتج أفريقي له، والذي يشكل 75% من عائدات صادراتها، ويتطلّع المواطنون لزيادة إيرادات البلاد من صادرات الذّهب، لتحسين مستوى العيش، واعتبر المدير المالي لشركة « ريزولوت » إن ضغط حكومات غرب إفريقيا على الشركات لزيادة حصتها أمْرًا غير مشروع، رغم ارتفاع الأرباح الفصلية لشركات التّعدين بفعل الإرتفاع الكبير للأسعار.
تُطالب حكومة بوركينا فاسو بمزيد من السيادة للبلاد في قطاع الذهب الذي يمثل 12% من الناتج المحلي الإجمالي، ولذلك خضع قانون التعدين لمراجعة « مُفاجة » خلال شهر تموز/يوليو 2024، بهدف زيادة حصة الدولة في المشاريع الاستخراجية، وهدّد الرئيس الشركات متعددة الجنسيات، خلال بداية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024، بسحب تصاريح التشغيل، إذا لم تستجب لشروط الحكومة، مما أَثَّرَ سَلْبًا على أَسْهُم هذه الشركات في سوق الأوراق المالية، وشهدت الشركات الكندية Iamgold وFortuna Silver Mines وOrezone Gold انخفاضًا حادًّا في تقييماتها، كما حدث مع شركة West African Resources الأسترالية، وتدّعي هذه الشركات إن انخفاض الطّلب وارتفاع مخاطر استخراج المعادن لا يسمح لها ( رغم ارتفاع الإيرادات والأرباح) بزيادة حصّة الدّول الإفريقية.
تزامن تذمُّر مسؤولي الشركات الأجنبية مع تدهور الوضع الأمني، وتروج إشاعات عن تآمُرِ هذه الشركات مع المجموعات الإرهابية لزعزعة استقرار البلدان التي تريد السيطرة على مواردها الطبيعية، وأدّت الهجمات الإرهابية في بوركينا فاسو إلى إغلاق العديد من المناجم فضلاً عن العديد من مواقع التعدين الذهبي الحرفي في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد اتخاذ بعض الإجراءات، من بينها تجريد شركة اليورانيوم الفرنسية أورانو المُسيطرة على إنتاج البلاد من تصريح تشغيل أحد أكبر رواسب اليورانيوم في العالم، إيمورارين ( حزيران/يونيو 2024)، وأعلنت المجموعة الفرنسية، بنهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024، أنها ستعلق الإنتاج في النيجير، كما سحب المجلس العسكري الحاكم في النيجر تصريح المجموعة الكندية GoviEx لاستغلال منجم كبير لليورانيوم بالقرب من أرليت…
تحاول تركيا استغلال فرصة الخلافات بين الشركات الأجنبية وسلطات هذه البلدان للاستفادة من الوضع، فَوَقَّعَتْ مع النيجر « اتفاقية تعاون في قطاع التعدين » ( نهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024) كما تحاول شركات التّعدين الرّوسية تعزيز وُجُودها في هذه البلدان، وفق وكالة نوفوستي ( منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2024).
امتدّت الخلافات بين سلطات دول غرب إفريقيا والشركات الأجنبية إلى السنغال وساحل العاج اللّتَيْن قرّرتا إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية وإعادة النّظر في شُرُوط الإستثمارات الأجنبية لكن بصورة تدريجية، لكي لا تنسحب الشركات الغربية بين عشية وضحاها، وتترك فراغًا يعسر تلافيه خلال فترة قصيرة، وتُحاول روسيا استغلال الوضع (كما تركيا والصين والهند…) ودعمت إعادة تنظيم قطاع التعدين في إطار نظرة اقتصادية وجيوسياسية شاملة، ضمن توسيع علاقات الشراكة بين الدول الإفريقية والعالم، وعدم الإقتصار على الشركات الكندية والفرنسية والأسترالية…
اعتبر الرئيس السّنغالي (باسيرو ديوماي فايي ) إن شروط تشغيل المناجم وحقوق المحروقات والمواد الأولية غير عادلة وغير متوازنة، ولذلك أطلق عملية تدقيق لقطاع التعدين والنفط والغاز، خلال شهر نيسان/ابريل 2024، مباشرة بعد تولي منصبه، وتأمل حكومة السنغال أن يُؤدّيَ التّدقيق إلى إعادة التفاوض على بعض العقود لكي تعود بالنفع على السكان المحليين، وفي ساحل العاج، أعلنت الحكومة أيضًا اعتزامها إصلاح قانون التعدين الخاص بها، بهدف زيادة الإيرادات المحلية من إنتاج الذهب والمننيز والليثيوم وغيرها، وتجدر الإشارة إن الحسن واتارا، يرأسُ ساحل العاج منذ 2011، وهو مدير سابق بالبنك العالمي وعميل لفرنسا والولايات المتحدة، لكنه شَعُر بتغيير اتّجاه الرّأي العام المحلّي والإقليمي، « فاستيْقظ » فجأةً وأعلن إعادة النّظر في عُقود استغلال المناجم…
اضطرت بعض الشركات الأجنبية إلى التّفاوض وقُبُول بعض الشّرُوط، فيما رفضت شركات أخرى، وعلى سبيل المثال، أعلنت مجموعة « باريك غولد » الكندية يوم الثّلاثاء 14 كانون الثاني/يناير 2025، تعليق عملياتها في موقع لولو-جونكوتو للذهب في غرب مالي، وهو أحد أكبر مناجم الذّهب في العالم، إثر فشل المفاوضات التي استمرت عدّة أشهر، وجابهت سلطات البلاد تعنّتَ الشركة الكندية بتنفيذ الأمْر الإحترازي الذي أصدره القضاء المَحلِّي وأرسلت السلطات مروحية إلى موقع تخزين الذهب لتنفيذ عملية مصادرة كمية الذهب الموجودة في الموقع المُقَدّرة بنحو ثلاثة أطنان، وتندرج المُواجهة بين الشركة الكندية والدولة المالية بشأن أحد أكبر مجمعات الذهب في العالم، في سياق عام من الضغوط المتزايدة على شركات التعدين الأجنبية، ويسعى الجيش، الذي يُسيطر على السّلطة منذ سنة 2020، إلى الحصول على حصة أكبر من إيرادات المعادن ومن ضمنها الذّهب الذي ينتجه منجم لولو-جونكوتو، الذي تمتلك شركة باريك غولد 80% منه والدولة المالية 20%، وأدّى الخلاف ( حول زيادة حصة الدّولة المالية ) إلى منع نَقْل شحنات الذهب من المنجم منذ أكثر من سبعة أسابيع، وكانت شركة « باريك غولد » قد حاولت ترهيب حكومة مالي عبر منحها إنذارا نهائيا للإفراج عن مخزوناتها، ولم يُؤدِّ التهديد إلى النتيجة التي كانت الشركة الكندية تتوقّعها، فقرّرت تعليق عملياتها، كوسيلة للضغط على الحكومة التي تواجه زيادة العمليات الإرهابية بدعم من أوكرانيا وبعض القوى الخارجية، وتُعدّ مالي من أفقر دول العالم، وهي ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ويُساهم الذّهب بنحو 25% من ميزانية الدّولة وبنحو 75% من عائدات التصدير، وفق وكالة الصحافة الفرنسية – فرانس برس ( أ. ف. ب. 14 كانون الثاني/يناير 2025)
« اقتصاد السخط »
أدّت موجة ارتفاع الأسعار والتضخم، طيلة عامَيْن، في ظل ارتفاع الدُّيُون الحكومية، إلى تغذية الغضب الاجتماعي المتزايد في كينيا وأوغندا وغانا ونيجيريا وساحل العاج وغيرها من البلدان التي عاشت احتجاجات – منذ نهاية سنة 2024 – ضد تدهور الدّخل وظروف الحياة، مما أثار تخوفات خُبراء صندوق الدّولي ( 20 تشرين الثاني/نوفمبر و 06 كانون الأول/ديسمبر 2024) الذين يتابعون الوضع عن كثب، وعبروا – منذ تشرين الأول/اكتوبر 2024 – عن تخوفاتهم إزاء تصاعد ما سموه « الاضطرابات الاجتماعية » التي تم قمعها بِشدّة، دون إثارة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، وفي الواقع فإن الغضب ناتج عن خفض الإنفاق الاجتماعي بسبب ارتفاع المبالغ المُخصّصة لسداد الديون وبسبب زيادات الأسعار وتفاقم سوء التغذية، ويعترف خبراء صندوق النقد الدولي: « إن الفقر ونقص الفرص وسوء الإدارة، إلى جانب ارتفاع تكاليف المعيشة والصعوبات قصيرة الأجل المرتبطة بالتعديلات الاقتصادية الكلية، كلها عوامل تؤدي إلى تأجيج الإحباطات الاجتماعية »، ويحذر صندوق النقد الدولي من أن « ارتفاع مستوى عدم المساواة والإقصاء (الحقيقي أو المتصور) يشكل أرضاً خصبة للاضطرابات الاجتماعية أو السياسية ».
أدت احتجاجات سنة 2024 و2025 ضد زيادات الضرائب في كينيا إلى مقتل ما لا يقل عن 60 شخصًا وإلى اعتقال العشرات وفي ساحل العاج، ألقي القبض على 25 عضوا من منصة المواطنين « العمل من أجل الشعب » أثناء تحضيرهم لمسيرة « سلمية » ( أيلول/سبتمبر 2024) وحُكم على 16 منهم بالسجن لمدة ستة أشهر بتهمة « الإخلال بالنظام العام »، وفي غانا، حظرت المحاكم جميع التجمعات منذ نهاية شهر تموز/يوليو 2024 على أساس أن الشرطة تفتقر إلى الأفراد اللازمين للسيطرة على العدد المتزايد من المظاهرات، وفي نيجيريا التي تشهد أسوأ أزمة اقتصادية خلال ثلاثة عقود، أسفرت حملة القمع ضد الاحتجاجات عن مقتل 21 شخصا على الأقل في ( آب/أغسطس 2024)، إثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تزيد عن 40% على أساس سنوي وخفض بعض إعانات الوقود، لدى أكبر منتج للمحروقات في إفريقيا، وفي أوغندا، طالب المتظاهرون باستقالة رئيسة البرلمان أنيتا أمونغ، المشتبه بها في اختلاس الأموال.
أما عن دوافع الغضب فهي عديدة ومن بينها ارتفاع نسبة بطالة الشباب في أفريقيا، حيث يعاني 28% من الشباب من البطالة أو هم خارج النظام المدرسي، مقارنة بنحو 21% في المتوسط في البلدان الناشئة و12% في البلدان الغنية، زيادة على ارتفاع أسعار المستهلك وخفض الإنفاق الاجتماعي والصحي، وزيادة الضرائب في ظل انخفاض دخل أغلبية المواطنين، لتسديد الدّيُون التي أصبحت أكثر تكلفة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وتستهلك الديون ما لا يقل عن 60% من ميزانية كينيا، على سبيل المثال، مما دفع رئيسها ويليام روتو إلى فرض زيادات ضريبية رغم الإحتجاجات…
مكانة إفريقيا في الأطماع الدّولية سنة 2025 : الطاهر المعز
الجزء الثالث إفريقيا بين الثروات الطّبيعية والدُّيُون والفَقْر
عانت قارة إفريقيا من العُبُودية، بداية من القرن الخامس عشر، حيث كانت السُّفُن الضّخمة تشحن ملايين الشباب الذين يتم اصطيادهم واقتيادهم بهدف بيْعِهم في أمريكا الجنوبية وجزر بحر الكاريبي ثم في أمريكا الشمالية من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، لتصبح الولايات المتحدة – بفضل العبودية والعمل المجاني في المزارع ثم في المصانع والسّجون – أكبر قوة امبريالية عالمية، وتعرّضت قارة إفريقيا – خصوصًا المناطق السّاحلية – للإستعمار الأوروبي المباشر، ثم الإستعمار غير المباشر الذي لا يزال سائدًا، لأن "الاستقلال" الشّكْلِي لم يُؤَدِّ إلى التّخلُّص من الهيمنة الإمبريالية التي نَصّبت عُملاءها على رأس جهاز الدولة ليخْدِموا المصالح الإمبريالية والشركات التي تحتكر استغلال الثروات الطّبيعية الهائلة...
من مظاهر الهيمنة
استعمرت فرنسا المغرب العربي والبلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصّحراء الكبرى ( إفريقيا الغربية) وبعد الإستقلال الشّكلي ( أو الزّائِف ) بقيت الإمبريالية الفرنسية مُهَيْمنة بقوة من خلال الفرنك الإفريقي ( CFA ) ومن خلال القواعد العسكرية واستخدام اللغة الفرنسية كلغة رسمية للعديد من الدّول ومن خلال الهيمنة الإقتصادية للمصارف والشركات في 14 دولة بغرب ووسط إفريقيا وفي مقدّمتها الدّول التي تستخدم الفرنك الإفريقي – CFA – (بينين وتوغو وبوركينا فاسو ومالي والسنغال وساحل العاج والنيجر وغينيا بيساو وتشاد والكاميرون وجمهورية وسط إفريقيا وغينيا الاستوائية والغابون)، وهي مُضطرّة إلى إيداع نصف احتياطاتها من النّقد الأجنبي في المصرف المركزي الفرنسي – مع شُرُوط أخرى عديدة – أو ما يُعادل 500 مليار دولار سنوياً ولا تمتلك الدّول الإفريقية أي سُلْطَة لاستخدام هذه الأموال، ما يَحُدُّ من قدرة هذه الدّول على الإستثمار في التنمية الإقتصادية والزراعة والتصنيع، بل يُشكّل الفرنك الإفريقي ذريعة لتدفقات رأس المال إلى الخارج، بينما بقيت 11 من أصل 14 دولة من دول الفرنك الإفريقي – CFA – من الدّول الأقل نموّاً في العالم وتقع في أسفل مؤشر التنمية البشرية، وفق بيانات الأمم المتحدة، وبذلك بقيت فرنسا، بعد الإستقلال الشّكلي لهذه البلدان، مُسَيْطِرَة على اقتصاد إفريقيا الغربية والوُسطى.
قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك ( آذار/مارس 2008 ): « لولا إفريقيا لأصبحت قُوّة فرنسا تُضاهي دولة من العالم الثالث » ، وسبَقَ أن صرّح الرئيس فرنسوا ميتران: » لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين، بدون إفريقيا »، ولذلك تعمل فرنسا بكل قُواها على استمرار علاقات الهيمنة واستغلال موارد إفريقيا وتستخدم النّهب والإنقلابات والتّدخُّل السافر في شؤون دول إفريقيا، فضلا عن تكثيف النهب الذي تمارسه المؤسسات والشركات الفرنسية في المنطقة.
أعلنت فرنسا « فك الإرتباط » بالفرنك الإفريقي ( أيار/مايو 2020) لكن لم يتغير شيء من حيث التطبيق العملي، ولم تتحرّر الدّول الإفريقية المَعْنِيّة من التّبَعِيّة والإرتباط المَفْرُوض لأن الترتيبات الجديدة – التي لم يتم تطبيقها – تسمح لفرنسا بمواصلة دورها كضامن لاحتياطات دول غرب إفريقيا ( إيكواس – ECOWAS ) واستمرار سُلْطتها على احتياطات تلك الدّوَل، ولكنّها لم تَعُدْ مُلْزَمَة بمساعدة دول CFA في حال حدوث أزمة، فيما تظَلُّ الشركات والأعمال الفرنسية تتمتّع بأفضليّة في مجال العُقُود والطُّرُوحات العامة، كما احتفظت فرنسا بالحق الحصري في بيع السلاح والعتاد وتدريب الجيوش الإفريقية، مما يَسَّر إشراف فرنسا على الإنقلابات التي تخدم شركاتها ومصالحها.
القواعد العسكرية الغربية
أصبحت الولايات المتحدة تُنافس فرنسا، خصوصًا منذ إقرار برنامج القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا « أفريكوم »، ووقّعت الولايات المتحدة، سنة 2018،اتفاقية عسكرية مع غانا مقابل 20 مليون دولار، وحوّل الجيش الأمريكي مطار العاصمة « أَكْرَا » إلى قاعدة عسكرية تضُمُّ شبكة اتصالات ومخزن للذخيرة والأسلحة ومحورًا للرحلات العسكرية الجوية الأسبوعية من قاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا إلى غربي إفريقيا وأشارت « خطّة عمليات » وزارة الحرب الأمريكية للفترة 2018-2022، إن الجيش الأمريكي يمتلك أكثر من 568 ألفاً من الأصول، كالمباني والهياكل في 4800 موقع حول العالم، وتلعب إفريقيا دورًا مُهمًّا في الربط بين القواعد والأنشطة العسكرية الأمريكية في العالم، كما يقوم الجيش الأمريكي في إفريقيا تحت قيادة «أفريكوم Africom»، بمشاركة دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، بمهام « تضمن مصالح الشركات الغربية وتدفُّق المواد الخام الضرورية لصناعة الأسلحة والصناعات الأخرى في دول الناتو، والحفاظ على حركة البضائع دون عوائق… » كما تتمثل مهام إفريكوم في تسعير « الحرب الباردة الجديدة » من خلال مراقبة المصالح التجارية الصينية والروسية في القارة الإفريقية، وأصدر الإتحاد الأوروبي ( بعد التّشاور مع الولايات المتحدة) سنة 2020 وثيقة بعنوان « الإستراتيجية الأوروبية الشاملة تجاه إفريقيا » التي تضمّنت « قلق الإتحاد الأوروبي من المنافسة غير النّزيهة في إفريقيا، بشأن استخراج واستغلال الموارد الطبيعية في القارة… »، واحتدم الصّراع الخَفِي بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة وروسيا والصّين من جهة أخرى، بداية من سنة 2021، إثر تغيير السلطة في مالي التي طالبت بانسحاب الجيش الفرنسي ( انسحب الجيش الفرنسي فعليا خلال شهر شباط/فبراير 2022)، ليزداد الحضور الرّوسي من خلال رفع المتظاهرين – ضد الهيمنة الفرنسية – العلم الروسي، ثم اضطرت القوات الفرنسية إلى الإنسحاب من بوركينا فاسو سنة 2023، ومن النيجر وطلبت تشاد كذلك سحب القوات الفرنسية الخ، وبذلك لعبت إفريقيا دَوْرًا رئيسيا في إعادة التّوازن وفرض معادلات جديدة تتجاوز تأثيراتها قارة إفريقيا، وأصبحت روسيا أكبر مورّد للأسلحة لإفريقيا، كما تُوَفِّرُ تقنيات جَمْع وتخزين المعلومات المُرْتَبِطَة بأمن الدّول الإفريقية…
من أسباب تراجع نفوذ « الغرب » في إفريقيا
لقد دمّرت المؤسسات الدوليّة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وأوروبا اقتصاد وأمن إفريقيا، من خلال تضخيم « المُساعدات » التي لا تخدم في واقع الأمر سوى مصالح الدّول الإمبريالية وشركاتها، كما مَوّلت هذه « المُساعدات » الفساد والحروب الأهلية، وأعاقت النمو الاقتصادي، بدل تمويل برامج التّنْمِية، وأصبحت هذه المُساعدات المَسْمُومة أحد أهم عوامل التّخلّف، وعلى سبيل المثال، عند انتشار وباء كوفيد، سنة 2020، وعَدَ صندوق النقد الدولي بمنح القروض دون شروط، وبتعليق تسديد الديون، وأعلن تخصيص مليارات الدّولارات بعنوان » مساعدة الدّول الفقيرة على التّعافي « ، ونشرت مؤسسة أوكسفام بحثاً سنة 2021، أثْبَتَ أنّ صندوق النقد الدّولي اشترط ( في 13 من أصل 15 برنامجاً ) « فَرْضَ إجراءات تقشّف تتضمّن الضرائب على الأغذية والوقود، أو إجراء اقتطاعات ضريبية هامّة تُعرّض الخدمات العامة للخطر »، وأظْهَر تقرير « مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية » سنة 2020، بعنوان « مجابهة التدفقات المالية غير الشرعية من أجل تنمية مستدامة في إفريقيا » إنّ حجم الأموال التي تمّ إخراجها من إفريقيا بشكل غير شرعي، نحو الملاذات الضريبية بلغت حتى سنة 2010، ما لا يقل عن 32 تريليون دولار، ويضُرّ هذا التّهريب للثروة خارج القارة بأسواقها المالية ويسلبها الموارد اللازمة للتنمية، كما أَظْهَرَ مؤشّر « الالتزام بتخفيض اللامساواة » ( سنة 2021) « إن 14 من أصل 16 دولة في غرب إفريقيا تخطط لتخفيض الإنفاق بمقدار 26,8 مليار دولار من أجل احتواء نزيف أزمة الديون التي شجعت عليها قروض صندوق النقد الدولي أثناء الوباء »…
أدّى الإستنزاف والنّهب الذي تُمارسه الدّول الإمبريالية وشركاتها والمُؤسّسات المالية البتي تُسيطر عليها ( صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وغيرها ) إلى البحث عن بدائل، فأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأهم الدّول الإفريقية – خصوصًا ضمن مبادرة الحزام والطّريق »، مما ساهم في كَسْرِ الهيمنة « الغربية »، لأن الصين تُقرض بفوائد أقل ارتفاعًا وبشروط لا تتضمن جوانب سياسية، وسمحت القُروض الصّينية بإنجاز مشاريع التنمية والبنية التحتية وتكثيف التبادل التجاري وتنويع الصَّادرات والتدريب وتطوير المهارات، وقُدِّرت استثمارات الصين في إفريقيا بين سنتَيْ 2000 و 2014 بنحو 180 مليار دولار ولا تقتصر هذه الإستثمارات على استخراج المواد الخام، وفق منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، المناهضة للصين والتي تضم 34 اقتصاد عالمي، وفاقت تمويلات مصارف التنمية الصينية في إفريقيا جنوب الصحراء ( البالغة 23 مليار دولارا بين 2007 و 2020) ضِعْف تمويلات الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وفرنسا، وأكثر من تمويلات البنك العالمي، وتحوّلت التمويلات الصينية من التركيز على البنية التحتية إلى تعزيز الشراكات والمبادلات التجارية…
الدّيُون
تزايَدَ اعتماد الدّوَل الإفريقية على الإقتراض من المؤسسات المالية الدّولية وخصوصًا من صندوق النقد الدّولي مُقابل فوائد وشُرُوط مُجحفة، وتضم إفريقيا – سنة 2024 – عشر دول من بين أكثر البلدان مَدْيُونِيَّةً لصندوق النقد الدّولي، ويتعين على الدول الأفريقية مُجتمعة سداد عشرين مليار دولارا سنويّا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وفق البنك الإفريقي للتنمية ( وهو فَرْعٌ من البنك العالمي) الذي أعلن عن إنشاء آلية الاستقرار المالي الأفريقي التي تتمثل في إعادة تمويل دُيُون الدّول الإفريقية مقابل « إصلاحات اقتصادية ومالية شاملة » بهدف « تقليل الاعتماد على الاقتراض المكلف من الأسواق الدولية »، وتتمثل هذه الشُّرُوط في خصخصة القطاع العام وممتلكات الدّولة، وخفض قيمة العُملة والتّخلِّي عن دعم السلع الغذائية والطاقة وخفض الإنفاق الحكومي على البرامج الإجتماعية والتعليم والصّحّة، مما يزيد من استدامة هشاشة اقتصاد هذه الدّول، فيما يعيش نحو ستمائة مليون إفريقي بدون كهرباء في مختلف أنحاء أفريقيا (أو ما يُسَمّى « فقر الطاقة »)، مما يجعل فُرَصَ التنمية المحلية والتّعليم والرّعاية الصّحّية والمُساواة بين الجنْسَيْن محدودة لهؤلاء الفُقراء.
كانت 65 دولة فقيرة ( نامية، بلغة المُؤسّسات المالية الدّولية ) تُعاني من ارتفاع مُستوى الدُّيُون الخارجية، ومن بينها الدّول الإفريقية، بين سنتَيْ 2011 و 2019 – قبل انتشار وباء « كوفيد – 19 » – وأعلن البنك العالمي ارتفاع « الديون العامة في عيّنة من 65 دولة نامية بنسبة 18% من ناتجها المحلي الإجمالي، وأكثر من ذلك بكثير في بعض الدّوَل، كما في إفريقيا ما تحت الصحراء، حيث ارتفعت نسبة الدين لتصل إلى 27% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول بالمتوسط »، ولم يتم إنفاق
هذه الديون على البنية التحتية والتطوير الاقتصادي الذي قد يؤدي إلى تنمية تُمكّن هذه البلدان من سداد الديون، بل تم استخدامها في سداد دُيُون سابقة، وعلى أي حال فالدّائنون يرفضون استخدام الدّيون من أجل التنمية، وأكّد تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة ( يونيسيف ) سنة 2029 (قبل كوفيد) » هناك 16 دولة إفريقية من إجمالي 25 دولة في العالم اضطرّها الدّائنون الخارجيون على تخصيص مبالغ لسداد ديونها تفوق حجم الإنفاق على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية »
حصل ذلك قبل انتشار وباء « كوفيد – 19 » الذي أدّى إلى الرّكود والتّقشّف وإلى زيادة ضغوط البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وارتفاع حجم الديون الخارجية وأعبائها، وخصوصًا الدّيون « قصيرة الأجل » التي استخدمتها المؤسسات المالية الدولية لفرض برامج « الإصلاح الهَيْكَلِي » مما جعل بعض الدّول – بما فيها التي تمتلك مخزنات هائلة من المواد الأولية، مثل غينيا التي تمتلك أكثرَ من ثُلُث مخزون العالم من معدن البوكسيت – تعجز عن تمويل الخدمات الأساسية الضّرورية، وتتَنَصَّلُ مؤسّسات التّمويل ( مثل صندوق النّقد الدّولي) من مسؤوليتها في فَرْض الشّروط المُجحفة، وتدّعي – بدعم من وسائل الإعلام السّائد – إن « أزمة الديون » ناجمة عن سوء التّصرّف وسوء الإدارة وعن الفساد، وليست هذه الأزمة ناتجة عن الشّروط الصّارمة مثل خفض الدعم والتعديلات النقدية وبرامج التقشف، وتأثيرات هذه الإجراءات على القطاعات الاجتماعية الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية الأساسية، كما يحصل في الدول الإفريقية العشرة التي حصلت على أعلى قروض من صندوق النقد الدولي حتى بداية كانون الأول/ديسمبر 2024، والتي تُعدّ من أكثر الدّوَل مديونية في العالم، وفي مقدّمتها مصر وكينيا وأنغولا (الغنية بالنّفط) وغانا وساحل العاج والكونغو الدّيمقراطية والحبشة وجنوب إفريقيا والكامرون والسّنغال، وتتميز هذه الدّول بالإعتماد على المواد الأولية وعدم تنويع الإقتصاد…
تأثير الدُّيُون على حياة المواطنين
ذكرنا في فقرة سابقة عدم استفادة المواطنين من هذه الدّيُون، بل كانت وبالاً على حياة النّاس، لأنهم يُسدّدون دُيُونًا لم يستفيدوا منها، بل تَضرّروا وتراجع مستوى عيشهم، مما زاد من غضب سُكّان مصر ( منذ كانون الثاني/يناير 1977) وتونس والمغرب ونيجيريا وساحل العاج وغيرها خلال العقْدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، وأدت الدّيون والأزمة الإقتصادية المستمرة، وارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض القيمة الحقيقية للدّخل إلى غضب المواطنين، وكانت تقارير البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي تتوقّع عودة « الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة » خصوصًا في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، لأن هذه المؤسسات الدّولية تُدْرِكُ جيّدًا التّأثير السّلبي لشروطها على حياة المواطنين، بفعل ارتفاع الأسعار وإلغاء دعم السلع الأساسية وخصخصة القطاع العام، لكن لهذه المؤسسات دَوْرٌ وظيفي يتمثّل في خدمة أهداف الإمبريالية ( الرأسمالية في الحقبة الإحتكارية) وشركاتها العابرة للقارات، خصوصًا بعد انتشار وباء كوفيد، ثم بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا حيث ارتفعت أسعار الحبوب – والمواد الغذائية عممًا – وأسعار الوقود والأسمدة، وهي سلع تستوردها الدّول الإفريقية بالعملات الأجنبية، مما أدّى إلى انطلاق احتجاجات ضخمة في كينيا وغانا ونيجيريا وغيرها من البلدان التي رفع مواطنوها لافتات كُتب عليها: « نحن جائعون » أو « الأسعار مرتفعة جداً » أو « أين الدولة؟ » أو « نحن فقراء لأننا نتعرض للسرقة وليس لعدم وجود المال في البلد »، وفق لافتات رُفِعت في نيروبي، عاصمة كينيا، وفي نيجيريا – أكبر منتج إفريقي للنفط والغاز – أثار رفع دعم الوقود سنة 2023 موجة من الاحتجاجات، من قِبَل النقابات العمالية والأحزاب والمنظمات الأهلية والطّلاّبية وغيرها، وفي كينيا حدثت صدامات بين قوات الشرطة والمواطنين الذين يحتجُّون على خفض الميزانية وارتفاع الضّرائب وارتفاع الأسعار ونسبة التضخم ( تموز/يوليو 2023 ).
اضطرت بعض الحكومات إلى التّراجع المُؤَقّت عن تطبيق تعليمات الدّائنين، مثلما حصل سابقًا وإثر احتجاجات عارمة في المغرب وتونس ومصر والأردن ونيجيريا وغانا وغيرها، بعد محاولات فاشلة لصدّ المتظاهرين، وبعد قتل وإصابة العشرات أو المئات من المواطنين، مثلما حصل في ساحل العاج، حيث أعلن الرئيس الحسن واتارا عن سلسلة من التدابير الرّمزية الرامية إلى تخفيف التوترات، ومن بينها زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية، ووضع حد أقصى لأسعار الضروريات الأساسية، وتقديم مساعدات انتقائية للأسر الأكثر فقرا، وهي إجراءات مؤقتة وقصيرة الأجل، ولا تُلبِّي الإحتياجات الأساسية، لأن الحل يكمن في التعويل على الموارد الذّاتية وتقليل الاعتماد على الواردات، ودعم صغار الفلاحين ووقف استنزاف الموارد وما إلى ذلك.
تُشِير الإحتجاجات الشعبية في البلدان الإفريقية منذ سنة 2022، إلى الغضب لأسباب اقتصادية تتعلق بانهيار مستوى المعيشة، وإلى ضرورة إرساء مجتمع عادل، لا يضطر شبابه إلى المغامرة بحياتهم في البحر الأبيض المتوسط أو في المحيطات بحثًا عن ظروف حياة أَفْضَلَ، لأن الوضع الحالي غير قابل للإستمرار.
موقع افريقيا في الحرب التجارية
يمكن اختيار قارة إفريقيا كنموذج لبلدان الأطراف الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، فهي القارة التي لا تنال اهتمام الإمبريالية الأمريكية، باستثناء الموقع الإستراتيجي ولذلك أنشأت الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة بوش الإبن القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا ( أفريكوم)، وتمّ إنجاز المُخطط في ظل رئاسة باراك أوباما، وتقوم أفريكوم بما لا يقل عن 350 مناورة وتدريب مع جيوش إفريقيا سنويا، وتعمل الولايات المتحدة على منع المنافسين ( روسيا والصين والهند وتركيا وفرنسا…) من استغلال موارد إفريقيا التي يقدّر أن يرتفع عدد سكانها إلى أكثر من مليار شخص سنة 2050، ورغم الثروات الهائلة تُعاني شُعُوب إفريقيا من الدُّيُون الخارجية ومن الفقر، وتتجاوز معدلات بطالة الشباب في العديد من الدّول الإفريقية 30% وتُعاني معظم بلدان القارة من انهيار البنية التحتية الأساسية ورداءة خدمات الرعاية الصحية والتعليم…
نشرت الولايات المتحدة قواعد الطائرات المُسيّرة في إفريقيا، وجَرّبَ الجيش الأمريكي إرسال وحدات استطلاعية سريعة لتنفيذ الإعتداءات والتّدمير عن بُعْد، والانسحاب دون التعرض لخسائر، ولم تسلم قارة إفريقيا من الحرب التّجارية ومن الرُّسُوم الجمركية الإضافية
أقرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوما جمركية يوم الثاني من نيسان/ابريل 2025 بنسب تتراوح بين 10% إلى 49% على جميع الواردات الأمريكية، مع رسوم إضافية أخرى على الصّين وبعض الدول، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وإلى الرّكود الإقتصادي، ولم تَسْلم 184 دولة وجزيرة وإقليم، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ27، ولم تسلم دويلات الخليج النفطية من رُعونة دونالد ترامب، لأن الركود يؤدّي إلى انخفاض الطّلب على النّفط وإلى انخفاض أسعاره، فيما ترتفع أسعار السلع الأخرى – ومن بينها الغذاء والدّواء – التي تشملها الرّسوم الجمركية، وسوف يتضرّر اقتصاد مصر والأردن ( رُوّاد التّطبيع) وجميع البلدان العربية الأخرى، مثل السودان ولبنان واليمن والسعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعُمان وسوريا والعراق والمغرب وتونس والجزائر وموريتانيا وليبيا وجزر القمر، وتراوحت الرسوم بين 20% ( الأردن) و 41% ( سوريا) وتراوحت الرسوم على سلع البلدان العربية الأخرى بين هاتيْن النّسْبَتَيْن، وتجدر الإشارة إلى بلوغ فائض تجارة السلع الأمريكية مع مصر 3,5 مليار دولار ومع السعودية 443,3 مليار دولارا ومع الإمارات 19,5 مليار دولارا سنة 2024، بحسب بيانات مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، وسوف تُؤدّي الحرب التجارية إلى ارتفاع أسعار العديد من المنتجات التي تستوردها الدول العربية، وسوف تكون الإمارات والسعودية والكويت الأشد تضرراً من القرارات الأمريكية، بحكم ارتفاع حجم تعاملاتها التجارية مع الولايات المتحدة، وعمومًا يُعتَبَرُ حجم الصادرات الأمريكية للدول العربية الأخرى صغير جداً مقارنة بالصين والاتحاد الأوروبي.
في إفريقيا، بلغت التعريفات الجمركية الأمريكية على منتجات « ليوسوتو » 50% فيما كانت أقل بالنسبة للدول الإفريقية الأخرى، وشملت الرسوم المنسوجات والمعادن والجلود، مع إلغاء « الامتيازات الضريبية » التي كانت سارية المفعول منذ سنة 2000، وسوف يتضرر اقتصاد « ليوسوتو » الذي تتجه نسبة تزيد عن 90% من صادراته من الملابس نحو الولايات المتحدة، ويشغل القطاع نحو 45 ألف عامل، معظمهم من النساء، كما سوف يتضرر اقتصاد مدغشقر وجزيرة موريشيوس من الرسوم الأمريكية التي تجاوزت نسبتها 40%، وبلغت الرسوم على صادرات أنغولا إلى الولايات المتحدة 32%، وصادرات جنوب إفريقيا 30%، وتراوحت الرسوم المفروضة على صادرات نيجيريا وكينيا والحبشة وغانا بين 10% و 14%، وأثارت الرسوم الجمركية الجديدة على بعض السلع الإفريقية موجة من التساؤلات حول دوافع وجدوى وتداعيات هذه القرارات – أحادية الجانب – على اقتصادات القارة الإفريقية وقد تُعيد رسم خريطة العلاقات التجارية بين إفريقيا وأمريكا، وتدفع الدّول الإفريقية إلى تعزيز العلاقات فيما بينها ومع الصين والاتحاد الأوروبي…
وجب استغلال الرسوم الجمركية الأمريكية للتفكير في إستراتيجيات اقتصادية تُحقّق التنمية المُستدامة وعدم الإقتصار على تصدير المعادن والمحروقات والمواد الخام، والتعاون الإقليمي من أجل خلق صناعات تحويلية وتلبية حاجة المواطنين في مجالات الأغذية والأدوية والرعاية الصحية والطاقة وغيرها، وتعزيز التكامل الاقتصادي العربي أو الآسيوي أو الإفريقي وزيادة التجارة البينية وتنويع الشراكات الإقتصادية مع البلدان التي لا تفرض شُرُوطًا سياسية ، والإستثمار المُشترك في مجالات البنية التحتية ( الطرقات والسكة الحديدية والموانئ ) والتكنولوجيا والتّأهيل…
تبحث جميع الدّول – الحليفة والمنافسة و »المُحايدة » – عن بدائل للحدّ من التبعية للولايات المتحدة وعملتها ( الدّولار) لأن الحرب التجارية تؤدّي إلى زيادة الأسعار وارتفاع نسبة التضخم وانخفاض الدّخل الحقيقي للأفراد وقد تؤدّي إلى انخفاض حجم الناتج الإجمالي العالمي، وتُعرقل الإستثمار، خصوصًا في البلدان الفقيرة التي تحتاج إلى تنشيط الإقتصاد وتنويع وزيادة الإنتاج لتلبية احتياجات المواطنين ولخلق فُرص عمل، ولا يمكن التّعويل على أي طرف خارجي ( لا الصين ولا الإتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة) لتحقيق هذه الأهداف، مما يُؤكّد ضرورة خلق أُطُرٍ خاصة بالبلدان الفقيرة ( بلدان « الأطْراف » الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية) وتعزيز التبادل بينها، وخلق أُطُر ومؤسسات ديمقراطية داخل كل بلد تُمكّن المواطنين من الإدلاء برأيهم ومن المُشاركة في عمليات اتخاذ القرارات ( السياسية والإقتصادية) ذات الصبغة الآنية والمُسْتَقْبَلِيّة، وتنفيذ تلك القرارات ومتابعة إنجازها وتقويمها…
عندما شهدت النيجر تغييرات سياسية سنة 2023، أغلقت الدول المجاورة مثل بنين ونيجيريا حدودها، مما أدى إلى قطع طريق تجاري حيوي إلى المحيط الأطلسي، وأجبر الإغلاق القيادة الجديدة في النيجر على إعادة توجيه الحركة اللوجستية لصادراتها إلى ميناء لومي، عاصمة توغو، الذي أصبح منفذا استراتيجيا للتجارة مع تحالف دول الساحل، الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
يعد ميناء لومي ميناءً عميق المياه، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، استثمرت الحكومة التوغولية في تحسينه، مما أدى إلى مضاعفة قدرته على معالجة البضائع، وتجاوز حجم حركة النقل 30 مليون طن سنة 2024، مؤكداً بذلك مكانته المهيمنة في غرب أفريقيا، وأصبح منفَذًا موثوقًا بتدفق السلع من وإلى البلدان غير الساحلية في جنوب وشرق أفريقيا، وعزّزَ الميناء جاذبية توغو لتصبح البلاد منَصَّةً أساسيةً لخدمة الكيان السياسي الإقليمي الجديد، الذي خرج من هيمنة الإمبريالية الفرنسية، كما استخدمت توغو هذا الدّور اللوجيستي الجديد لتعزيز صادراتها التقليدية، كالقطن والفوسفات، وتوسيع وتطوير المناطق الصناعية، بدعم من البنية التحتية الحديثة التي تهدف إلى تحفيز المعالجة المحلية للمواد الخام، ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد توغو بنسبة 6% خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهي وتيرة مستدامة في منطقة تتسم بعدم الاستقرار، وحققت توغو هذا المسار بفضل الديناميكية التي خلقها تحالف دول الساحل ( مالي والنيجر وبوركينا فاسو) التي تمكنت من تخفيف حدّة الحصار الذي فرضته دول غربي إفريقيا الخاضعة للإمبريالية…
خاتمة:
بعد موجات الإستقلال الشّكْلِي بقيت الإمبريالية الفرنسية وشركاتها ومصارفها مُهيمنة على المغرب العربي والمنطقة المُحيطة بالصّحراء وأجزاء واسعة من غربي ووسط إفريقيا، ولا تزال الإمبريالية الفرنسية تستغل وتنهب الثروات الطبيعية والمالية والبشرية الإفريقية، ونظّمت العديد من الإنقلابات والإغتيالات، سواء قبل الإستقلال الشّكلي للعديد من البلدان أو بعده، وركّزت على الإستعمار الثقافي من خلال اللغة والثقافة الفرنسية، وعلى الإستعمار المالي من خلال ربط العملة الموحدة في غرب أفريقيا بالفرنك الفرنسي ثم اليورو، ويسيطر المصرف المركزي الفرنسي على احتياطي عملة هذه البلدان وعلى تجارتها الخارجية، وأهملت فرنسا مساعدة القطاعات الإقتصادية والإنتاجية والإجتماعية، لكي لا ترتفع القدرة الإنتاجية، وقدرة اقتصاد البلدان المستهدفة ( المستعمرات الفرنسية ) على تجاوز حالة الفقر والتخلف، مما أدّى إلى تعدّد مظاهر الإحتجاج ضد الهيمنة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، فَتَراجَعَ نفوذ فرنسا واضطرت إلى سحب جيوشها من عدد من البلدان، رغم الشّكوك التي تحوم حول قرار تشاد وساحل العاج، ولذلك وجب الترحيب بأي قرار يُؤكّد سيادة هذه الدّول على أراضيها وثرواتها، مع الحذر من خلفيات أي قرار، ووردت في هذا المقال فقرة مُطوّلة عن السنغال الذي أصبح ائتلاف « باستيف » التّقدّمي يحكمه، لكن تقَدُّمِية حكام السنغال تتقهْقَر أمام النفوذ العسكري الأمريكي المُتعاظِم وأمام المشاريع العسكرية والإقتصادية الأمريكية في السنغال وفي إفريقيا، مما يستوجب التّأنِّي ودراسة الإنتماء الطّبقي لنظام الحكم، وليس الأصل الطّبقي للأفراد وعناصر الحكومة، بل ما هي الفئات ( والمصالح ) الطّبقية التي تخدمها هذه الحكومة، وحكومات مالي والنيجر وبوركينا فاسو…
رغم كثرة الحديث عن « مُساعدات الدّول والجهات المانحة للدّول الفقيرة »، ورغم التزام الدّول الغنية – منذ سنة 2002 – بزيادة المساعدات لتحقيق مجموعة من أهداف التنمية بحلول سنة 2015، ومجموعة ثانية بحلول سنة 2030، لم يتم تحقيق المجموعة الأولى من الأهداف ومن المستبعد تحقيق المجموعة الثانية…
تم تحديد مُعدّل « المُساعدات » العالمية بنحو 0,7% من الناتج الإجمالي للدّول الغنية، كهدف وجب بلوغه، لكن معظم الدّول الغنية لم تبلغ هذا الهدف المتواضع جدًّا، فالمساعدات الخارجية الإنمائية الأمريكية لم تبلغ نسبة 0,2% من الدّخل القومي وبريطانيا 0,56% واليابان 0,17% وإيطاليا 0,13% وكندا 0,32% ولم تصل أي منها نسبة 0,7 % فيما بلغت « مُساعدات » لكسمبورغ 1% والسويد 0,97% ودنمارك 0,83% وتشمل « المُساعدات » تمويل العديد من المنظمات « غير الحكومية » التي تشكل إحدى ركائز النفوذ الأجنبي وتُوجّه السياسات الخارجية لبعض الدّول الفقيرة، باسم الحَوْكَمَة والشّفافية أو مكافحة الإرهاب ولا علاقة للأخلاق أو القِيَم الإنسانية بالمُساعدات الدّولية، بل تحكمها الأهداف والمصالح الإستراتيجية والتجارية والثقافية للدّول « المانحة »…
لماذا تقدم الجهات المانحة مساعدات للدول الفقيرة؟ ما هي أهدافها ؟ ما هي خلفيات » الدوافع الإنسانية « ؟
تهدف المساعدات الخيرية في ظاهرها محاربة الجوع والبؤس في الدول الفقيرة وتهدف المساعدات الإقتصادية دعم جهود الدّول الفقيرة لتطوير مواردها وتحقيق النمو الإقتصادي، فضلا عن المساعدات السياسية والأمنية والعسكرية، لكن، تهدف جميعها في الحقيقة إلى خلق مناطق النفوذ الدّبلوماسية ( التصويت في المنظمات الدّولية) والإقتصادية وتتضمن استخراج المواد الأولية واستثمار الشركات في قطاعات الطاقة والإتصالات والبنية التحتية والسيطرة على قطاعات استراتيجية، وتصريف المنتجات، ويتضمن النفوذ العسكري إنشاء القواعد وبيع الأسلحة وتدريب القوات المسلحة وما إلى ذلك.
لا تهدف قُرُوض صندوق النقد الدولي والمؤسسات الشقيقة له، تنمية الدّول الفقيرة أو وضْع حدّ للفقر، بل تهدف استدامة الفقر وزيادة الدّيون لكي تُصبح مُزْمِنَة، لأن فَقْرَ دول الأطراف هو شَرْطَ ثراء الدّول الغنية الإمبريالية النافذة في صندوق النقد الدّولي، وبالتّالي فالصّندوق مُلْزَمٌ بالحفاظ على وبترسيخ واستدامة هذا الوضع، ولذلك تتجاهل وصفات صندوق النقد الدولي ضرورة سيطرة بلدان « الجنوب » على مواردها، بدل نهبها من قِبَل الشركات العابرة للقارات بذريعة اجتذاب الإستثمارات الأجنبية، وضرورة زيادة الرُّسُوم والضّرائب على هذه الشركات العابرة للقارات…
مَثَّلَ صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وأمثالُهما نموذج الهيمنة الإقتصادية والمالية، بَدَلَ ( وأحيانا إلى جانب ) الهيمنة العسكرية، وحان الوقت لإنشاء مؤسسات أخرى بديلة تقوم على التّعاون بدَلَ المنافسة الرّأسمالية، وإيجاد بديل لهيمنة الدّولار الأمريكي على سوق المواد الأولية والتحويلات المالية والتّجارة الدّولية، ومن الضروري تطوير وبلورة بعض المبادرات مثل إنشاء عملة إقليمية ( مقترح مطروح في أمريكا الجنوبية)، وإنشاء مصارف عمومية قارّيّة لتسهيل المبادلات التجارية الإقليمية وتمويل مشاريع التنمية والقطاعات المنتجة، بالتوازي مع تنمية موارد الدّولة من خلال رَفْع نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي، لاتثمار جزء منها في الإنفاق على البُنية التحتية وتعميم الطاقة والمياه النّقيّة والصّحة والتعليم والمسكن والنقل العمومي والضمان الاجتماعي، وما إلى ذلك…
الطاهر المعز