تونس – عن الأوضاع بعد 2010-الجزء الأول من ثلاثة أجزاء : الطاهر المع
مقدّمة
جرت انتخابات رئاسية يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024، بمشاركة ثلاثة متنافسين، أحدهم في السجن، وجرت الإنتخابات في ظل مناخ وصفه المُعارضون بالقَمْعِي بفعل تقلّص أو إلغاء المكتسبات الدّيمقراطية، من بينها تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها في النزاعات الإنتخابية وحل المجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء الضّوابط القانونية وأجهزة الرقابة المُؤسّسية، وفصل عشرات الموظفين، من بينهم قُضاة، واعتقال سياسيين مُعارضين وإعلاميين، باسم محاربة الفساد…
عند مقارنة انتخابات 2024 بانتخابات السنوات التي أعقبت الإنتفاضة، حتى سنة 2019، نلاحظ انخفاض نسبة المُشاركة ( استفتاء على الدستور الجديد وجولة الإعادة لانتخاب البرلمان الجديد وانتخابات السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024 ) بفعل عدم وُضُوح الرّهان أو غيابه وغياب التنافس بين برامج أو مقترحات مختلفة لمستقبل البلاد، وبسبب انتشار الغضب والإستياء من الوضع الإقتصادي ( شُحّ السلع المدعومة وارتفاع أسعارها، وانقطاع الكهرباء والمياه…) واستمرار الفساد والرّشوة، وتدهور الوضع المالي للدّولة، رغم ارتفاع عائدات السياحة والمُغْتَرِبِين ورغم الدّعم المالي الأوروبي، مقابل حراسة الحدود ومَنْع تدفُّق فُقراء إفريقيا بحثًا عن عمل في أوروبا.
أما نتيجة الإنتخابات فهي غير مُهِمّة في حد ذاتها ولذلك فإن الفقرات الموالية لن تتطرّق إلى الإنتخابات، بل تُركّز على الوضع الإقتصادي وعلى مدى التّغيير الذي حصل منذ انتفاضة 2010/2011، أو ماذا تحقّقَ من مطالب مواطني المناطق المحرومة التي أطْلقت انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2010 والإنتفاضات التي سبقتها، من « انتفاضة الخُبْز » بنهاية 1983 وبداية 1984 إلى سيدي بوزيد 2010، مرورًا بانتفاضات الحوض المنجمي وبنقردان وغيرها…
سيادة منقوصة
كان استقلال تونس، مثل معظم بلدان إفريقيا، شكليا، واستمرت الهيمنة الفرنسية ثم الأمريكية على البلاد، ولذلك كان نظام الحُكْم مُنحازًا للإمبريالية، وساند الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ( 1903 – 2000) الذي حكم طويلا، من 1956 إلى 1987، التّدخّل العسكري الأمريكي في لبنان سنة 1958، وساند العدوان الأمريكي على شعب فيتنام وكان مُعاديًا لفكرة القومية العربية ووحدة شعوبها، ودعا مُبَكِّرًا إلى تقسيم فلسطين والإعتراف بالكيان الصّهيوني، ولم يتغيّر الأمر بعد بورقيبة، ولا بعد زين العابدين بن علي…
تغيَّر شكل الحكم بعد انتفاضة 2010/2011 فأصبح برلمانيا، بين 2012 و 2021 وسيطر ائتلاف يقوده الإخوان المسلمون على أجهزة السّلطة لفترة عشر سنوات كانت ثقيلةَ الوَطْاَة على الكادحين والأُجَراء والفُقراء وعلى اقتصاد وموارد البلاد التي نهبها الإخوان المُجْرِمون باسم المَظْلُومية وباسم تعويض ما فات، فلم يتغير الوضع الذي ثار ضدّه المواطنون، بل ارتفعت البطالة والفقر والأمّيّة، وارتفعت الدّيون الخارجية واستمرت الخصخصة وتدهور مستوى الخدمات…
تتناول هذه الورقة موضوعَيْن يُعتبران مقياسًا لأي تغيير سياسي واجتماعي فِعْلِي، أوّلهما الميزانية السّنوية للدّولة التي تُعْتَبَر معيارًا أَفْصَح من عشرات الخطابات حول « تحسين مستوى معيشة المواطنين » أو « السيادة الإقتصادية » وما إلى ذلك، وثانيهما العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وتونس، وهي أفْصَحُ من عشرات الخُطب حول « دعم الشعب الفلسطيني » أو الإستقلال و »سيادة القرار الوطني » وما إلى ذلك.
الوضع الإقتصادي
يتحدّث الرئيس التونسي عن « استقلالية القرار » وعن « السّيادة » وعن « رَفْضِ إملاءات صندوق النّقد الدّولي » وشُرُوط قَرْض بقيمة 1,9 مليار دولار، لكن حكومته تُطبّق مُعظم الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدّولي والدّائنون بشكل استباقي، وتُطبّق نفس النمط الإقتصادي السّائد منذ سنة 1970…
خلقت ظروف العيش الرديئة والبطالة والفقر والتّخلّي عن القطاع العام الظروف الموضوعية لانتفاضة 2010 – 2011 (في تونس كما في مصر ) وأظْهَرت هذه الإنتفاضة قُدْرَة المناضلين من اليسار النقابي والسياسي على التنظيم والتّعبئة و »الإنصهار » في صفوف الفئات المحرومة من الشعب، وأظْهرت كذلك عَجْز قيادات هذا اليسار وقيادات المنظمات والأحزاب التقدمية عن طَرْح بديل يُؤَدِّي إلى القَطِيعَة مع خيارات النّظام الإقتصادية والإجتماعية التي سادت منذ 1956، وبَرَزَ ضُعْف القوى التقدمية والثورية التي لم تكن قادرة على تأطير الانتفاضة وطرح مشروع سياسي بديل، فتمكنت البرجوازية الكومبرادورية المحلية، بدعم من القوى الإمبريالية وحلفائها في المنطقة، من الالتفاف على الانتفاضة وتحويل وجهتها، ونجحت بذلك المؤسسات المالية الدولية والقوى الإمبريالية والتحالف الطبقي الحاكم من استمرار الإستغلال والإضطهاد والهيمنة والحفاظ على مصالح الإمبريالية باسم الدّيمقراطية، ولم يتم تطوير الإنتاج – كخطوة في طريق الإستقلالية والسيادة – بل ارتفع حجم الدّيون ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي لتتضاعف خلال عشر سنوات…
ارتفعت قيمة خدمة الدين الخارجي من 6865,6 مليون دينار خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2023، إلى 10144,7 مليون دينار بنهاية شهر آب/أغسطس 2024 ويُشكل الدّيْن الخارجي عبئا ثقيلا على المالية العامة، وبالتالي على المواطنين، فيما انخفض صافي الأصول بالعملة الأجنبية، رغم الإرتفاع الطّفيف لإيرادات السياحة وتحويلات العُمال التونسيين المُغْتَرِبِين، واضطرت الحكومة إلى تخفيض الواردات بالعملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة الدّينار ( دولار واحد = ثلاث دينارات) مما يزيد من تكلفة السلع والخدمات المستوردة ومن العجز التجاري ومن الضغوط التضخمية ويزيد من تكلفة خدمة الدَّيْن الخارجي، وقد يُودّي تراكم هذه العوامل إلى تعميق الأزمة وإلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد…
الإلتفاف على الإنتفاضة، محليا ودوليا
تم احتواء الإنتفاضة منذ خروج زين العابدين بن علي من تونس نحو السّعودية، فقد كان جيفري فيلتمان ( مساعد وزير الخارجية الأمريكي، تلميذ ومساعد « بول بريمر » في العراق، والسفير السابق في لبنان) متواجدًا في تونس يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011، وكان من المُقرر أن يبقى بضعة ساعات ولكنه بقي ثلاثة أيام، وشكّل أول حكومة وأشرف على النقاش « الدّستوري » حول تسليم الرئاسة المؤقتة لمحمد الغنوشي (آخر رئيس وزراء زين العابدين بن علي) وانتهى الأمر بتنصيب بعض رموز النظام ( فؤاد المبزع وابن خالته الباجي قائد السبسي ) ومعهم نجيب الشابي وبعض الإنتهازيين، وكانت تلك بداية تخلّي بعض المُعارضة بما فيها اليسارية عن النّفس الثوري الذي رافق الإنتفاضة، وتجلّى ذلك في حل اللجان القاعدية لحماية الثورة والمساهمة في إنهاء اعتصام القصبة، وتجسّد غباء أحزاب اليسار في « دخول الحرب بغير عُدّة » والدّعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي دون مشروع دستور جديد ولا قوة تُمكّنه من متابعة تنفيذ شِعاره…
في الخارج نَسّقت الدّول الإمبريالية مع حُكّام الخليج لتنظيم مؤتمر « دوفيل » (مدينة ساحلية شمال غربي فرنسا) للسيطرة على الوضع في تونس ومصر، واحتواء الإنتفاضات التي انطلقت في بلدان أخرى كاليمن والمغرب، وانعقد اللقاء الأول بعنوان « شراكة دوفيل » (أيار/مايو 2011) على هامش قمة الثمانية (قبل إقصاء روسيا، لتصبح « مجموعة السّبعة ») وجَمَعَ اللقاء المؤسسات المالية الدولية ودول مجموعة الثمانية ودُوَيْلات الخليج وتركيا وتعهد المُشاركون بتقديم « مساعدات » ( هي قُرُوض بشروط مجحفة) تصل إلى 40 مليار دولار إلى “البلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية” وهي تونس والمغرب ومصر والأردن واليمن، وتتمثل الشروط في “تقليص دور القطاع العام وتحسين مناخ الإستثمار وخَلْقِ بيئة مواتية للقطاع الخاص وللإستثمارات الأجنبية وتغيير قوانين العمل… »، وهي الشروط التي فَرَها صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والدّائنون الآخرون منذ ثمانينيات القرن العشرين وأدّت إلى انتفاضات عديدة في المغرب وتونس ومصر والأردن والعديد من بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية…
مَثّلَ قُبُول الحكومة التّونسية المُؤقّتة هذه الشروط، منذ أيار/مايو 2011، ترسيخًا لسياسة « التّكَيُّف الهَيْكَلي » التي أدّت إلى الإنتفاضة، وتمهيدًا لسياسات حكومة « التّرويكا » التي انبثقت عن انتخابات 23 تشرين الأول/اكتوبر 2011، والتي قبلت شروط « شراكة دوفيل » وشروط صندوق النقد الدّولي مقابل الحصول على قرض بقيمة 1,75 مليار دولارا ( دامت المفاوضات من أيار/مايو 2012 إلى حزيران/يونيو 2013) بشرط خفض دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض الضرائب على أرباح الشركات والمُضاربة و »تحرير الأسعار وسوق العمل » وفق ما ورد في وثيقة ميزانية 2013، واستمرت قروض صندوق النقد الدّولي والدول الأوروبية والبنك العالمي والإمارات وقَطَر وتركيا وغيرها، قبل وبعد انتخابات 2014 و 2019 وصاحب كل قرض شرط تنفيذ « إصلاحات » إضافية تتضمن تخفيض قيمة العُملة المحلية، فانخفضت قيمة الدينار التونسي مقابل الدّولار بنحو 52% بين سَنَتَيْ 2011 و2022 أي إن المواطنين يفقدون نفس النسبة من دَخْلِهم إذا لم ترتفع الأجور أو الحوافز والتعويضات بنفس النسبة على الأقل، وتتضَمَّنُ خفض أو إلغاء دعم الغذاء والطاقة، وتجميد الرواتب، أي انخفاض قيمتها الحقيقية بحكم ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدّينار، وتجميد الإنتداب في القطاع العام (قبل تصفيته) وعدم تعويض المُتقاعدين، وزيادة الضرائب غير المباشرة كضريبة القيمة المُضافة والأداء على الخدمات الإدارية، وترافقت هذه « الإصلاحات » مع احتجاجات المواطنين التي فرضت خَفْضَ وتيرة تنفيذ الشّروط أو تأجيلها، ولئن توسّعت رُقعة الإحتجاجات لتشمل الفئات الهَشّة وصغار الفلاّحين فإنها لم تكن مُنَسَّقَة ولم تتضمّن رؤية سياسية أو رُؤية مُستقبلية تَضْمَن عدم تكرار إجهاض انتفاضة 2010/2011 كما تراجع دور القوى التّقدّمية بعد حل الجبهة الشعبية بسبب خلافات حول المقاعد بمناسبة انتخابات 2019، وسمحت هذه العوامل باستمرار سياسات التّقشّف والخصخصة وخفض قيمة الدّينار، بعد فرض الإجراءات الإستثنائية ( 25 تموز/يوليو 2021) واستيلاء جزء من السّلطة على أجهزة الحكومة والبرلمان والإدارة والقضاء والأمن والإعلام، دون تغيير السياسات الإقتصادية، وفقا لميزانيات السنوات من 2022 إلى 2024 التي تُنفّذ شروط الدّائنين من مؤسسات مالية دولية أو الإتحاد الأوروبي واستمرار العلاقات غير المتكافئة التي تُجسّدها علاقات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي و « التبادل الحر الشامل والمُعَمّق »…
تونس بنهاية سنة 2023
ارتفعت قيمة المديونية العمومية بأكثر من 400 % بين سنتَيْ 2010 حيث كانت تبلغ 25,5 مليار دينار أي ما يعادل 40 % من الناتج المحلي الإجمالي، وسنة 2022، حيث بلغت 132,5 مليار دينارا، أي ما يمثل 93 % من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات المصرف المركزي التونسي، ويُمثل الدَّيْن الدّاخلي نحو 27 % بينما يشكل الدين الخارجي نحو 73 % من مجموع الدين العمومي، وهي ديُون مُقوّمة باليورو والدّولار والين وغيرها من العملات الأجنبية، وترتفع بذلك قيمة هذه الدّيون كلما انخفضت قيمة الدّينار…
عَمّقت جائحة « كوفيد-19 » الأزمة التي كانت قائمة قبل ذلك، ثم انهار الإنتاج الفلاحي بفعل الجفاف، فانكمش الاقتصاد بنسبة 8,8%، سنة 2020، وارتفع العجز التجاري ووصَلَ عجز الموازنة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت نسبة الدَّيْن العُمومي 80% من الناتج المحلي، وتبحث الدّولة عن قروض جديدة كل سنة مالية لتسديد القروض القديمة وفوائدها المرتفعة، فكانت النتيجة انخفاض احتياطي العملات الأجنبية وعجز الدّولة عن توريد السّلع الأساسية التي كان يمكن إنتاج بعضها محلّيًّا لولا أوامر الدّائنين التي تمنع ذلك، فاختفت بعض السلع الغذائية كالسّكّر والطّحين والحليب والأرز وكذلك الأدْوِيَة، وانتعش القطاع المصرفي الذي حقق أرباحًا بنسبة 13% بفضل القروض التي طلبتها الدّولة بالدّينار…
فاق عجز الميزان التجاري (الفرق بين قيمتي الصادرات والواردات) 25% بنهاية سنة 2023، وارتفعت نسبة التضخم من 8,3% بنهاية سنة 2022 إلى 11% بنهاية سنة 2023 ويَتَوَقَّعُ مشروع موازنة سنة 2024 نُمُوّ اقتصاد البلاد (الناتج المَحَلِّي الإجمالي) من نسبة 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024 في حال عدم ارتفاع نفقات دعم الغذاء والوقود والكهرباء، وزيادة الضرائب على الفنادق والمطاعم والمشروبات والمصارف و بعض الشركات، وخفض فاتورة رواتب موظّفي القطاع العام ( تجميد التّوظيف وعدم زيادة الرواتب وعدم تعويض المُتقاعدين…) وتستهدف الحكومة خفض عجز الميزانية من 7,7% سنة 2023 إلى 6,6% سنة 2024 رغم زيادة حاجتها إلى القروض الخارجية من 10,5 مليار دينار (3,32 مليار دولار) سنة 2023 إلى 16,4 مليار دينار (5,20 مليار دولار) سنة 2024، وفق مشروع الميزانية، وتسعى الحكومة إلى اقتراض 3,2 مليار دولار، بعد حصولها على قروض بقيمة 1,2 مليار دولارا و حوالي 1,5 مليار دولارا من أربع اكتتابات…
لا يَهُمُّ الفقيرَ أو المُعَطّل عن العمل أن يسمَعَ خطابًا جميلاً، بل يُرِيد عَملاً ودَخْلاً يُمكّنه من تلبية حاجياته وحاجيات ذَوِيه، أو – على أقل تقدير – أن لا يفقد الأمل في تجاوز مشاغله وأن تُقَدّم السّلطة مشاريع قابلة للتّمويل وللإنجاز بهدف سدّ الفجوة الطّبَقِية – أو على الأقل تضْيِيقها – وتوفير الوظائف والدّخل المُحترم لكي لا يُغامر الشباب بحياتهم بحثًا عن بعض السّراب في أوروبا، ولكي لا يُغادر ذَوُو الكفاءات بلادهم التي أنفقت الكثير على تأهيلهم…
الوضع خلال سنة 2024، قبل نهايتها
مَرّ شهر رمضان الذي أرهق ميزانية المواطنين بفعل شُحّ السلع الغذائية الأساسية وبفعل ارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية للدّخل، وحافظ المواطنون على « تقاليد » صُنْع حلويات عيد الفطر مع بعض التّحويرات المُتمثّلة في تعويض بعض المُكونات مرتفعة الثّمن بأخرى منخفضة نِسْبِيًّا، وبعد أقل من شَهْرَيْن قَمَرِيّيْن ونصف يحل عيد الإضحى ( العاشر من شهر ذي الحجة 144( هجري – 16 حزيران/يونيو 2024) وتبدأ مشقة البحث عن « خروف العيد » قبل ذلك بعدّة أسابيع، في ظل ظروف مالية عسيرة…
يُقدّر عدد الأضاحي في تونس بنحو مليون خروف سنويا، وتراوحت أسعار الخرفان، قُبيل عيد الإضحى سنة 2023 في أسواق تونس بين 700 و 1400 دينارًا ( بين 230 و 450 دولارا بمعدل الصرف خلال شهر أيار/مايو 2023)، بارتفاع نسبته 26% مقارنة بسنة 2022، بينما تراجع حجم المعروض في السوق من 1,6 مليون رأس غنم خلال السنوات الماضية إلى 1,2 مليون سنة 2024، نتيجة الجفاف المستمر منذ سبعة مواسم، وارتفاع أسعار العلف، والمضاربة والإحتكار، وأدّى ارتفاع الأسعار إلى انتشار دعوات الإحجام عن شراء الخرفان وعن أداء شعائر عيد الإضحى، وقدّر نقيب الجَزّارين ( القَصّابين) إن حوالي 65% من العائلات التونسية لم تتمكن من شراء الأضحية خلال سنة 2023 بسبب غلاء الأسعار التي أدّت شروط صندوق النقد الدّولي إلى « تَحْرِيرها »، ما جعل سعر الخروف متوسط الوزن يتجاوز 1500 دينار (حوالي 500 دولار)، وقد يصل سعر الخروف « المُمتاز » إلى الضِّعْف.
لم تتطور دعوات المقاطعة إلى إدراج الحج ضمنها، حيث يتجاوز إنفاق الحاج الواحد سبعة آلاف دولارا، بالعملة الأجنبية الشّحيحة التي تحتاجها البلاد لتوريد السلع الأساسية والضرورية، وتستفيد أسرة آل سعود الثرية جدًّا من أموال الحج، ثاني مورد للسعودية بعد النّفط، ولا يُسدّد معظم الحجاج ضرائب، فيما يُفْتَرَضُ إنهم أثرياء، تمكنوا من توفير سبعة آلاف دولار، زائدة عن حاجتهم، وما ينطبق على التونسيين ينطبق كذلك على الحجيج من مواطني البلدان العربية والإسلامية. أما التّبرير الدّيني لإلغاء الترخيص بغرض الحج فيتمثل في الآية: » ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا… » ( سورة آل عمران)
تُمثل مثل هذه المناسبات (رمضان وعيدَيْ الفطر والإضحى وبداية السنة الدّراسية…) مَحطّات مُرْهقة ومُكلفة، ومقياسًا أو مُؤشّرًا لقياس دَخْل الأُسَر ومستوى العيش، لكن المنظمات والأحزاب التّقدّمية لم تهتمّ – عَمَلِيًّا – بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، بل انجَرّت – لما سمح لها الوضع بالتّوجّه إلى المواطنين عبر وسائل الإعلام – إلى نقاش عقيم بشأن مسائل الهوية الزّائفة وطغيان القضايا الهامشية مثل « الحداثة » و »العلمانية » و »المُحافظة » وما إلى ذلك من مواضيع تُنَفِّرُ الأغلبية السّاحقة من المواطنين من السياسة، ولم نُقدّم قيادة ائتلاف الجبهة الشّعبية برنامجًا يُعالج قضايا البطالة والفقر والدّيون الخارجية والسيادة الغذائية وغيرها، ويُقدّم مشاريع حلول لمثل هذه القضايا، وغيرها…
تميّز الوضع قُبَيْل الإنتخابات بما يلي:
يُقدّر الناتج المحلي الإجمالي بنحو أربعين مليار دولارا، في بلاد يبلغ عدد سكانها حوالي 12 مليون نسمة، من بينهم ما بين 1,5 و 2 مليون مواطن يعيشون خارج البلاد، ويُقدّر سعر صرف الدّولار بثلاث دينارات تونسية يوم السبت 05 تشرين الأول/اكتوبر 2024، فيما بلغ معدّل البطالة الرّسمي 16,2% من القادرين على العمل، بنهاية الربع الأول من سنة 2024 وبلغ معدّل التضخم الرّسمي 7% بنهاية شهر تموز/يوليو 2024، وبلغ عجز الميزان التجاري 9,63 مليار دينارً بنهاية شهر تموز/يوليو 2024، وتباهت بيانات الحكومة والمصرف المركزي بارتفاع طفيف في إيرادات السياحة إلى 5,4 مليار دينار (وهو مبلغ ضئيل مقارنة بعدد السائحين وبالكوارث البيئية التي يسبّبها نمط السياحة في تونس) وتحويلات المُغتربين إلى 5,8 مليار دينار إلى غاية 20 أيلول/سبتمبر 2024، مع الإشارة إن إيرادات السياحة تشوبها الضبابية، لأن الحجوزات والدّفع تتم في أوروبا بواسطة شركات سياحية أوروبية تضغط على المحلات السياحية التونسية لخفض الأسعار، مما يضر بالعاملين بهذا القطاع والمُنتجين المحليين الذي يُزودون المنتجعات والفنادق والمطاعم ومتاجر الصناعات التقليدية، وتشير بيانات المصرف المركزي التونسي إن احتياطيات النقد الأجنبي بلغت 25.320.8 مليون دينار يوم الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 2024، أو ما يغطي 114 يوما من الواردات، بانخفاض خمسة أيام مُقارنة بيوم الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 2023…
أما بخصوص الدّيون فقد سدّدت الحكومة التونسية خلال سنة 2023 ديونا خارجية بقيمة 8,7 مليارات دينار (2,7 مليار دولار) وتمكّنت الحكومة من سداد الديون الداخلية عبر الاقتراض من المصارف المحلية، وسداد الديون الخارجية عبر الاقتراض بالعملة الأجنبية، وتنص ميزانية سنة 2024 على اقتراض 10,3 مليارات دينار (3,2 مليارات دولار) لتمويل توريد حاجات البلاد من المواد الأساسية وسداد الديون، ويؤدّي ذلك إلى خفض واردات السلع الأساسية (بفعل شح العُملات الأجنبية) التي غاب بعضها من الأسواق، وقدّر تقرير المصرف الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ( EBRD ) بعنوان « الآفاق الغقتصادية الإقليمية »، الصادر الخميس 3 تشرين الأول/اكتوبر 2024، نمو الاقتصاد التونسي بنسبة 1,2% سنة 2024 ( خلافًا لتوقعات قانون المالية لسنة 2024 الذي حدد هدفًا بنسبة 2,1% ) وبنسبة 1,8% سنة 2025 وهي نِسَب ضعيفة في اقتصاد يعتمد على الفلاحة وتصدير المواد الأولية غير المُصنّعة، خلافًا للدّول التي تعتمد على الصناعات والتكنولوجيا ذات القيمة الزائدة المرتفعة، ووجب على الإقتصاد التونسي تحقيق نسبة نمو تزيد عن 6% لاستيعاب الوافدين الجدد على « سوق الشُّغل »، وهو هدف صعب التحقيق في ظل السياسة الإقتصادية الحالية وفي ظل ضُعف الإستثمار، فضلا عن انكماش قطاع التّعدين، وعن الجفاف الذي أدّى إلى انكماش قطاع الزراعة، وفي ظل ارتفاع الدّيُون الخارجية، ولا تبدو سنة 2024 أحسن من سابقاتها، حيث لم تتجاوز نسبة النمو 0,6% خلال النصف الأول من سنة 2024 وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء في تونس ( منتصف آب/أغسطس 2024) التي أشارت إلى تراجع العجز التجاري خلال النصف الأول من العام 2024 إلى 8 مليارات دينار، مقابل 8,6 مليار دينار خلال نفس الفترة من العام 2023، ولا يزال الاقتصاد التونسي يواجه الضغوط التضخمية المستمرة ( تُترجم بالنسبة للمواطنين إلى زيادة أسعار السلع والخدمات الضرورية)، وانخفاض قيمة الدينار، وتقلص السيولة المصرفية، وتزايد أعباء خدمة الدين، وما إلى ذلك من العوامل ذات التّأثير السّلبي على حياة المواطنين.
معطيات حول التداين
لم يكن للإنتفاضة قيادة أو برنامج أو أهداف متوسّطة وبعيدة المدى، ولذلك تمكّن الحاكمون الجدد من مواصلة السياسات الإقتصادية السابقة، وتكريس التّبعية والإستعمار الجديد من خلال الإقتراض الخارجي وما يُصاحبه من شُرُوط تُؤَدِّي حتمًا إلى تخريب القطاع العام والقطاعات المُنتجة كالفلاحة والصناعات التحويلية وإلى خفض الرسوم على أرباح رأسمال المُضارب والشركات وتوريد السّلع التي يُمكن إنتاجها محلِّيًّا ما يُعمّق عجز الميزان التجاري ويُرسّخ علاقات التّبادل غير المُتكافئ بين أوروبا وتونس، وأدّى اللجوء إلى التّداين الخارجي إلى ارتفاع خدمة الدَّيْن، خلال فترة حُكم الإئتلاف الذي يقوده الإخوان المسلمون ( 2011 – 2022) قرابة 91,7 مليار دينارا ويعني ذلك تخصيص نحو 27% من نفقات الدولة لتسديد الديون، في ظل تراجع إيراداتها (بفعل خَفْض الرسوم على أرباح الشركات وخَفْض أو إلغاء الرّسوم الجمركية على العديد من البضائع المُسْتَوْرَدَة)، ورفع الضرائب على الأجْر، لترتفع مساهمة الأجراء والموظفين في حجم الضريبة المُباشرة ( على الدّخل) من 34 % سنة 2010 إلى 48 % سنة 2022، كما ارتفعت الضرائب غير المباشرة، وهي غير عادلة لأنها تُساوي بين الفقير والغني…
تَضاعف حجم الدّيُون الخارجية للبلاد خلال الفترة 2012 – 2021، وهي عشْرِية حُكْم الإئتلافات التي قادها الإخوان المسلمون، وتُشكّل الدّيون عبئًا ثقيلاً على اقتصاد البلاد والمواطنين من الجيل الحالي والجيل اللاّحق، وعلى سبيل المثال، خصّصت الدّولة، سنة 2019، نحو 93 % من الديون الجديدة لتسديد خدمة الديون القديمة، مما يُذكّر بتداين البلاد خلال القرن التاسع عشر والذي أدّى إلى احتلال سنة 1881، ولذا فإن احتمال التخلف عن سداد الديون الخارجية يبقى قائمًا سنتَيْ 2024 و 2025، وأدّى ارتفاع الدّيُون وتوجيه الإقتصاد نحو قطاعات غير إنتاجية إلى تحويل البلاد إلى مُتَسَوِّل يستجدي الدُّيُون بشروط مجحفة، وأعلن الإتحاد الأوروبي يوم 20 كانون الأول/ديسمبر 2023، قرر الاتحاد الأوروبي الإفراج عن مبلغ 150 مليون يورو، في إطار « التعاون المشترك بشأن إدارة الحدود وإجراءات مكافحة التهريب لتخفيض الهجرة غير المنظمة إلى أوروبا » على إثر الزيارات المُتعدّدة لمسؤولي الإتحاد الأوروبي إلى تونس خلال سنة 2023 (رئيسة حكومة إيطاليا جورجيا ميلوني ورئيسة المُفوّضيّة الأوروبية أوروسلا فون دير لين ورئيس الوزراء الهولندي مارك روت…) وتندرج « مكافحة الهجرة غير النظامية » ضمن بنود « الشراكة الإستراتيجية والشاملة » بين تونس والاتحاد الأوروبي الموقعة بتونس بتاريخ 16 تموز/يوليو 2023، وتحتاج تونس إلى السيولة بالعملات الأجنبية لشراء الحليب والطّحين (الدّقيق) والسُّكّر والأرز وغيرها من السلع الأساسية الضّرورية، مع تخصيص جزء كبير من إيرادات الدّولة لسداد الديون التي فاقت نسبتها 80% من الناتج المحلي الإجمالي، ولما عجزت الحكومة التونسية عن الحصول على قُرُوض خارجية، طرحت اكتتابا رابعا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر لتكملة ميزانية العام 2023 بمبلغ 700 مليون دينار ( 225,33 مليون دولارا ) إضافة إلى 800 مليون دينارأ جمعتها من ثلاث اكتتابات سابقة، خلال سنة 2023، في ظل توقعات بارتفاع نسبة العجز من 5,2% كانت مُتوقّعَة سابقًا إلى 7,7% من الناتج المحلي الإجمالي، وأعلنت الحكومة التونسية إنها تمكنت، بنهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2023، من سدد 81% من ديونها الخارجية البالغة 20,8 مليار دينار للعام 2023، ونجحت في تسديد أقساط القروض الخارجية، التي حلّ أجلها سنة 2023 رغم تعطّل الإتفاق مع صندوق النّقد الدّولي – وفق بيانات وزارة المالية على هامش مناقشة مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2023، إمن قِبَل مجلس النّوّاب – وأفضى هذا التعطيل إلى صعوبة الإقتراض الخارجي وإلى زيادة الإقتراض الدّاخلي من المصارف المحلية (وبعضها فُرُوع لمصارف أجنبية) التي بلغت نسبة أرباحها 13% بفعل ارتفاع نسبة الفائدة، ما جعل المصارف من أكثر القطاعات رِبْحيّةً في البلاد بفضل دُيُون الدّولة، وهو ما حصل في لبنان وما أدّى إلى انهيار اقتصادها، ورغم ارتفاع إيرادات تحويلات العمال التونسيين بالخارج والسياحة (التي لا يعرف أحد، بما في ذلك محافظ المصرف المركزي، حجم إيراداتها الحقيقية) توقعت الحكومة، قبل أشهر، أن تصل حاجيات التمويل لسد عجز ميزانية 2023 نحو 23,5 مليار دينار أو ما يُعادل 7,5 مليار دولار، ما يُحتم على الدّولة اقتراض مبلغ يفوق 4 مليارات دولارا من الخارج، فضلا عن ثلاثة مليارات دولارا من السوق المالية الدّاخلية، لتحقيق التوازن المالي سنة 2023، ويتعين على الدّولة أن تُسدّد سنة 2024، ديونا خارجية بقيمة 3,9 مليارات دولارأ، بزيادة حوالي 40% عن سنة 2023، ما يزيد حاجة الدّولة إلى القروض الخارجية، من 3,32 مليار دولارا سنة 2023 إلى حوالي 5,2 مليار دولارا سنة 2024، منها قرض جزائري بقيمة 300 مليون دولار وقرض سعودي بقيمة 500 مليون دولار وقرض من المصرف الإفريقي للتوريد والتّصدير بقيمة 400 مليون دولار، ما قد يرفع حجم الدّين العمومي من 40,8 مليار دولارا سنة 2023 إلى نحو 45 مليار دولار سنة 2024، أو ما يُعادل 80% الناتج المحلي الإجمالي إذا ما ارتفع نمو الإقتصاد (الناتج المحلِّي الإجمالي) من 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024 وهي نسبة ضعيفة جدًّا في اقتصاد يعتمد على تصدير المواد الخام، ولا يُحقق قيمة زائدة مرتفعة (مثل تحويل المواد الخام إلى مواد مُصنَّعَة والصناعات عالية الدّقّة والتقنية… ) ولا تُمَكِّنُ من استيعاب الدّاخلين الجُدُد إلى « سوق العمل »، ناهيك عن آلاف المُعَطّلين السّابقين، في ظل تراجع إنتاج القطاع الفلاحي – بسبب الظُّرُوف المناخية والجفاف – من 11% من الناتج المحلي الإجمالي، خلال النصف الأول من سنة 2022 إلى 8,7% خلال النصف الأول من سنة 2023، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي من 26,7 مليار دينارا إلى 25 مليار دينارًا بعد سداد الدّيون بنهاية الرّبع الثالث من سنة 2023…
تونس – عن الأوضاع بعد 2010 -الجزء الثاني من ثلاثة أجزاء – بحثًا عن مقومات السيادة :الطاهر المعز
مقدّمة
جرت انتخابات رئاسية يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024، في ظل مناخ وصفه المُعارضون بالقَمْعِي بفعل تقلّص أو إلغاء المكتسبات الدّيمقراطية، من بينها تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها في النزاعات الإنتخابية وحل المجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء الضّوابط القانونية وأجهزة الرقابة المُؤسّسية، وفصل عشرات الموظفين، من بينهم قُضاة، واعتقال سياسيين مُعارضين وإعلاميين، باسم محاربة الفساد، وانعكس هذا المناخ على نسبة مشاركة المواطنين في الإنتخابات، حيث انخفضت نسبة المُشاركة بعد سنة 2019، خلال الإستفتاء على الدستور الجديد وخلال جولة الإعادة لانتخاب البرلمان الجديد، بفعل عدم وجود مقترحات أو برامج بخصوص مستقبل البلاد والمواطنين وبسبب الوضع الإقتصادي ( شُحّ السلع المدعومة وارتفاع أسعارها، وانقطاع الكهرباء والمياه…) ورغم رفع شعار محاربة الفساد، استمرّ الفساد والرّشوة، وتدهْوَرَ الوضع المالي للدّولة التي أصبحت قواتها المسلحة تحرس حدود الإتحاد الأوروبي، مقابل بعض الفتات، لِمَنْع تدفُّق فُقراء إفريقيا بحثًا عن عمل في أوروبا
أما نتيجة الإنتخابات فهي غير مُهِمّة في حد ذاتها ولذلك فإن الفقرات الموالية تُركّز على الوضع الإقتصادي وعلى مدى التّغيير الذي حصل منذ انتفاضة 2010/2011، أو ماذا تحقّقَ من مطالب مواطني المناطق المحرومة التي أطْلقت انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2010 والإنتفاضات التي سبقتها، من « انتفاضة الخُبْز » بنهاية 1983 وبداية 1984 إلى سيدي بوزيد 2010، مرورًا بانتفاضات الحوض المنجمي وبنقردان وغيرها…
الدّيْن العام (دّيُون الدّولة والقطاع العام)
تعيش تونس مصاعب مالية خانقة بسبب ارتفاع حجم ديونها وتراجع مداخيلها من العملة الصعبة وصعوبة النفاذ إلى السوق المالية الدولية للاقتراض خاصة في ظل تعطل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على مدار 4 سنوات
تُقدّر قيمة الدّيُون الواجب على الدّولة التونسية تسديدها سنة 2024 بنحو 25 مليار دينار (حوالي ثمانية مليارات دولارا)، وأعلنت وزيرة المالية التونسية، في بداية شهر تموز/يوليو 2024، خلال جلسة للبرلمان، أن الحكومة سددت قروضا خارجية مستحقة بقيمة 11.6 مليار دينار (3,7 مليارات دولار) من القروض الخارجية خلال النصف الأول من العام 2024، ولجأت الدّولة إلى اقتراض نحو 173 مليون دولارا ( إضافة إلى 16 مليون دولارا خلال شهر أيار/مايو 2024) من المصارف المحلية لتمويل الميزانية الدولة.
تتميز البلاد، سنة 2024 بتواضع الموارد وضُعف قيمة الإستثمار والإدّخار، وارتفاع حجم الدّيون، وانخفاض إنتاج السلع الغذائية جراء الأضرار التي لحقت القطاع الفلاحي بفعل استفحال الجفاف، مع ارتفاع حجم الدّيون وارتفاع حصّة الدُّيُون التي يحل أجل سدادها بالعملات الأجنبية، سنة 2024، في ظل انخفاض مخزون احتياطي النقد الأجنبي، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية ( الدينار)، ويتوجّب على الدّولة التّونسية – وفق وثيقة الموازنة العامة لسنة 2024 – تسديد مبلغ أربعة مليارات دولارا من الديون الخارجية سنة 2024، بزيادة 40% عن سنة 2023، وتتوقع الحكومة أن يرتفع حجم الدَّيْن العام سنة 2024 إلى نحو 140 مليار دينار أو ما يُعادل 45,1 مليار دولار، أي نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وتحتاج موازنة تونس لسنة 2024 تمويلات كبيرة بنحو 28,7 مليار دينار تونسي ( أكثر من ثماني مليارات دولارا) منها 16,44 مليار دينار تمويلات خارجية (أكثر من 5 مليارات دولار)، خاصة بعد تقهقر التصنيف السيادي لتونس من قبل وكالات التصنيف، وكشفت تقرير الحكومة حول مشروع موازنة سنة 2024، أن خدمة الدين متوسط وطويل المدى، سترتفع من 20,8 مليار دينار (6,7 مليارات دولار) سنة 2023، إلى 24,7 مليار دينار (8 مليارات دولار) سنة 2024، وتبلغ الفجوة التمويلية لسنة 2024 – أي الفارق بين المُتَوَفِّر والمطلوب الواجب توفيره – 14 مليار دينار (4,5 مليار دولار) تحاول الحكومة الحصول عليها من الخارج، بالعملات الأجنبية، بينما يمكن للحكومة الضغط على الأثرياء الذين قدّر صندوق النقد الدّولي حجم تهرُّبهم من الضّرائب بنحو 3,5 مليارات دولارا…
بدأت نقاشات ميزانية 2024 من قِبَل أعضاء مجلس النواب الذين تم انتخابهم بنسبة منخفضة جدّا يوم الجمعة 17/11/2023، وأظْهَرت « إن مشروع قانون المالية لسنة 2024، لم يتضمن إجراءات لتطوير الاستثمار ولم يعكس إرادة حقيقية للتعويل على الذات بل ارتكز أساسا على الاقتراض والموارد الجبائية لتعبئة خزينة الدولة… » وفق تعبير العديد منهم…
استضافت تونس بعثةً من صندوق النقد الدّولي بنهاية سنة 2023، في إطار « المُراجَعَة الدّورية » من أجل « تقييم أحدث التطورات الاقتصادية »، وفق صندوق النّقد الدّولي الذي أدّت شُرُوطه المُجحفة ( منها إلغاء الدّعم ) إلى تعثّر حصول الحكومة التونسية على القسط الأول من قرض بقيمة 1,9 مليار دولارا، رغم الموافقة المبدئية للصندوق منذ تشرين الأول/اكتوبر 2023، وسبق أن أعلن ناطق باسم الصندوق إن حكومة تونس لم تُقَدّمْ برنامجًا بديلاً للتفاوض مع الصندوق، وفق مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، وتبحث حكومة تونس عن بدائل محلية لمجابهة المصاعب الإقتصادية الناجمة عن تخريب الإقتصاد من قِبَل التحالف الذي قادة الإخوان المسلمون طيلة عشْر سنوات، قبل انتشار وباء كورونا وارتفاع نسبة التضخم لتفوق 9% خلال شهر أيلول/سبتمبر 2023 ( 9,3% خلال شهر آب/أغسطس) واستمرار الجفاف للسنة الثالثة على التّوالي، ما خَلَقَ أزمة اقتصادية حادة…
قدّمت وزارة المالية المشروع الأولي لميزانية سنة 2024 (سنة الانتخابات الرئاسية خريف 2024) بعنوان « الفرضيات والتوجهات الكبرى لمشروع موازنة الدولة لسنة 2024″، في هذا المناخ الإقتصادي الصعب، وارتفع حجمها من 69,6 مليار دينارً سنة 2023 إلى 71,7 مليار دينارًا سنة 2024 أو ما يَقِلُّ قليلاً عن 24 مليار دولارا، بزسادة 4,5% عن سنة 2023، وهي نسبة تقل عن مُعدّل التّضخم، أي بانخفاض القيمة الحقيقية للميزانية التي تُشير إلى « عدم القيام بتعديلات في أسعار المواد الغذائية الأساسية والمحروقات والكهرباء »، خلافًا لموازنة العام 2023، ورغم الرّفض المُعْلَن لشروط صندوق النّقد الدّولي، لا تختلف سياسات الحكومة الحالية والسابقة عن السياسات الليبرالية التي يشترطها الصندوق، من ذلك اعتزام الحكومة، خلال سنة 2024، » خفض فاتورة الأجور العامة من 14,4% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2023 إلى 13,5% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2024، وترشيد الزيادات في الأجور وحصر باب التشغيل للقطاعات ذات الأولوية »، ويتوقع أن ترتفع نسبة النمو من 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024 وخفض عجز الميزانية إلى 6,6%، وقُدِّرَ حجم الإحتياجات المالية بنحو 7,81 مليار دولارا، من بينها 5,2 مليار دولارا من القُروض الخارجية، ومن العسير أن تحصل الحكومة على هذه المبالغ لأن الدّولة مُهَدَّدَة بالتّخلّف عن السّداد، وسجلت خدمة الدين الخارجي ارتفاعاً بنسبة 19,6% خلال الأشهر التسعة الأولى (من سنة 2023) على أساس سنوي، مقارنة بالسنة السابقة، وبلغت 7,6 مليار دينار أو ما يُعادل 2,39 مليار دولار، وفق بيانات المصرف المركزي، واعتمدت خطة التمويل الحكومية لسنة 2023 على أكثر من خمسة مليارات دولار من التمويل الخارجي، ووجب على الحكومة البحث عن تمويلات خارجية بحوالي 4,3 مليارات دولارا سنة 2024، في ظل وصول المفاوضات مع الصندوق إلى طريق مسدودة.، وأوردت وكالة « رويترز » تحليلا يُشير إلى استطاعة الحكومة الإستغناء عن قُرُوض صندوق النقد الدولي على المدى القصير، إذ وقعت الدّولة اتفاقيات مع الإتحاد الأوروبي للحصول على مبالغ صغيرة – معظمها في شكل مُعدّات رقابة وقمع – لردع فُقراء إفريقيا ومنعهم من الهجرة بَحْرًا إلى دول جنوب الإتحاد الأوروبي، وهي اتفاقيات تتعارض مع السيادة…
تُشير التقديرات الرسمية إلى ارتفاع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي من 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024، في ظل تعثر أداء القطاع الفلاحي بسبب الجفاف الذي لا يزال مستمرًّا، حين بدأ مجلس النّوّاب (يوم الجمعة 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2023) مناقشة مشروع ميزانية الدولة، ومشروع الميزان الاقتصادي، ومشروع قانون المالية لسنة 2024، حتى يوم العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024، وتجدر الإشارة إلى قِلّة الموارد الحكومية باستثناء العائدات الجبائية التي تُقدر قيمتها بأكثر من 44 مليار دينار أو ما يُعادل 14 مليار دولارا، بنسبة تُقارب 90% من العائدات الصّافية للدّولة، فأين عائدات الصّادرات والسياحة – التي يُصدّع لنا الإعلام والدّولة بها رؤوسنا كل يوم – ورغم إعلان ارتفاع عائدات السياحة بنسبة بلغت 47% طالبَ مُمثلو وكالات الأسفار والفنادق بامتيازات جبائية والإعفاء من الأداء على القيمة المضافة والمعاليم على الاستهلاك وزيادة الدّعم للفنادق وقطاع السياحة الذي لا يعرف أحد حجم إيراداته أو قيمة العملات الأجنبية التي تدخل البلاد بالفعل، لأن السائحين يُسددون ثمن الرحلات والإقامة الرخيصة إلى وكالات الأسفار الأجنبية…
أعلن رئيس الحكومة أمام نواب البرلمان يوم الجمعة 17/11/2023، « تَحَسُّنَ الميزان التجاري بفضل ارتفاع الصادرات بنسبة 7,5% مقابل تراجع الواردات بنسبة 3,7% غير إن حصة الدّيون الخارجية التي يحل أجل سدادها سنة 2024 تتجاوز أربع مليارات دولارا… » أما نقاشات النواب – الذين تم انتخابهم بنسبة منخفضة جدّا فأظهرت « إن مشروع قانون المالية لسنة 2024، لم يتضمن إجراءات لتطوير الاستثمار ولم يعكس إرادة حقيقية للتعويل على الذات بل ارتكز أساسا على الاقتراض والموارد الجبائية لتعبئة خزينة الدولة… »، وتُقدَّرُ الموارد غير الجبائية للدّولة بنحو 9,7% من إيرادات الميزانية أو نحو 4,76 مليار دينار، ولم يُعْلن رئيس الحكومة تفاصيل بخصوص « تحسين قدرة الدولة على استخلاص مواردها والتصدي للتهرب الضريبي وإدماج الاقتصاد الموازي في اتجاه دعم موارد الميزانية وتوسيع قاعدة الأداء »…
ارتفعت قيمة خدمة الدين الخارجي من 6865,6 مليون دينار خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2023، إلى 10,144,7 مليون دينار إلى غاية 31 آب/أغسطس 2024 ويُشكل الدّيْن الخارجي عبئا ثقيلا على المالية العامة، وبالتالي على المواطنين، فيما انخفض صافي الأصول بالعملة الأجنبية، رغم الإرتفاع الطّفيف لإيرادات السياحة وتحويلات العُمال التونسيين المُغْتَرِبِين، واضطرت الحكومة إلى تخفيض الواردات بالعملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة الدّينار ( دولار واحد = ثلاث دينارات) مما يزيد من تكلفة السلع والخدمات المستوردة ومن العجز التجاري ومن الضغوط التضخمية ويزيد من تكلفة خدمة الدَّيْن الخارجي، وقد يُودّي تراكم هذه العوامل إلى تعميق الأزمة وإلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد…
يرزح اقتصاد تونس تحت عوامل سلبية عدة من أبرزها « الجفاف المستمر وتحديات التمويل الخارجي وتواصل تراكم الديون المحلية لأهم المؤسسات العمومية » وفق « تقرير المرصد الاقتصادي لتونس لخريف 2023 » وأعلن البنك العالمي من خلال تقرير نشرَهُ يوم السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 أن الاقتصاد التونسي « تباطأ في النصف الأول من العام رغم انتعاش قطاع السياحة الذي يُعتبر مساهماً أساسياً في نمو البلاد » الذي عرقله انخفاض الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف، وتراجع إنتاج الكهرباء بسبب انخفاض منسوب مياه السدود، كما أعلن تقرير البنك العالمي « زيادة صادرات قطاعات النسيج والصناعات الآلية وزيت الزيتون »، ورغم هذه البيانات المتفائلة فإن الوقائع تُشير إلى ارتفاع نسبة الدين العام من أجمالي الناتج المحلي، من 67% سنة 2017 إلى 80 %سنة 2022 فيما توسّع عجز الموازنة العامة الذي كانت الحكومات المتعاقبة تُغَطِّيه بقروض جديدة، وأوردت التقارير الإقتصادية التي أصدرتها العديد من المصادر التونسية (معهد الإحصاء والمعهد التونسي للإستهلاك والمرصد التونسي للخدمات المالية…) أن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا من عام لآخر، مع استمرار نسق ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وفقدان الكثر منها وزيادة نسبة التضخم مقابل تدني قيمة الدّخل الحقيقي للأجراء والكادحين والفُقراء، وأدّت المصاعب الإقتصادية إلى استدانة حوالي 75% من الأجراء من المصارف وطلب قروض استهلاك لتسديد مصاريفهم اليومية وإيجاد سيولة مالية للعديد من النفقات، فضلاً عن الاقتراض الشخصي (السُّلْفة) من الأشخاص أو الشركات أو من الجمعيات من أجل تسديد أسعار الرعاية الصحية والطاقة وفواتير الكهرباء والماء وضرورات الإستهلاك اليومي وتعليم الأبناء، بالإضافة إلى القروض السّكنية وشراء السيارات، وقَدَّرَ مرصد الخدمات المالية نسبة تداين الأُسَر التونسية بنحو 34%، وإن المصارف تُشكل المصدر الأول للدّيُون بنسبة فائدة مرتفعة ( 10,6% في بدية سنة 2023 ) ولهذه الدُّيُون تداعيات وخيمة على تلك العائلات التي تُخصّص ما بين 40% و 60% من دخلها الشّهري لتسديد الدّيون وتلجأ – تمامًا مثل الدّولة – إلى الإقتراض مُجدّدًا لتسديد الدّيون السابقة وفوائدها المرتفعة وبلغت قيمة القُرُوض غير المُستخلصة قرابة 400 مليون دولارا سنة 2022…
يُعتَبَرُ الإقتصاد الموازي من ضمن المؤشرات السلبية لاقتصاد البلاد، لأن ارتفاع عدد العاملين في القطاع غير الرسمي إلى ما لا يقل عن 1,6 مليون شخص يُؤَدِّي إلى عدم تأمين العاملين اجتماعيا وصحيا وإلى حرمان خزينة الدّولة من الضرائب والأداء على الخدمات وقَدَّرَتْ منظمة العمل الدّولية خسائر البلاد بأكثر من ثلاثة مليارات دينار، أو حوالي مليار دولارا سنويا، وفق منظمة العمل الدّولية، ويشمل العمل في الاقتصاد المُوازي نحو 50% من الشباب والنساء بالخصوص، وأظهرت التجارب فشل تطبيق « وَصْفَة » صندوق النّقد الدّولي لدمج الإقتصاد الموازي من خلال مطاردة العاملين منهم في الساحات وأرصفة الشوارع، باسم « توسيع القاعدة الضّريبية »، وإهمال من يستوردون الحاويات ويُشرفون على الإقتصاد الموازي والإستفادة من البُنية التحتية وخدمات الدّولة والبلديات دون تسديد الضرائب ولا يُسدّدون رسوم الحماية الإجتماعية والصحية والتقاعد، وكشف المعهد الوطني للإحصاء إن 32% من إجمالي العاملين في تونس يعملون دون تغطية اجتماعية، إضافة إلى 7% يعملون لحسابهم الخاص دون ضمان اجتماعي و 2% يعملون في مشاريع عائلية، ويُقدّر البنك العالمي إن نصف العاملين في تونس يعملون في القطاع الموازي، أو حوالي 1,6 مليون عاملة وعامل، في حين يشمل التّشغيل الهَش 44,8% من العاملين سنة 2023، في المقابل، لا يتجاوز عدد المشتغلين نسبة 47%، وهم ممن تتجاوز أعمارهم 15 سنة، وعددهم 8,7 مليون نسمة، بينما لم يتحصل 53% على عمل، وتظل نسبة التشغيل في تونس متدنية مقارنة بالبلدان ذات الدخل المتوسط في العالم.
موازنة 2025
بدأت وزارة المالية، منذ الرّبع الثاني لسنة 2024، إعداد موازنة 2025، تحت شعار التقشف والضغط على الإنفاق، في ظل ظرف اقتصادي ومالي حرج ودقيق يستوجب الحفاظ على التوازنات المالية للبلاد على رغم بعض البوادر الإيجابية في ما يخص نمو القطاع الفلاحي وتطور عائدات السياحة وتحويلات المغتربين، فيما يُعاني الأُجَراء والكادحون والفُقراء من البطالة وانخفاض قيمة الدّخل الحقيقي وارتفاع الأسعار، تحت التهديد بتسريح الموظفين وبتجميد التوظيف في القطاع العام (باستثناء الشرطة) وتتناقض شعارات الحكومة مثل « دعم الاستثمارات العامة وتكريس الدور الاجتماعي للدولة والإحاطة بالفئات الاجتماعية محدودة الدخل وتعزيز التمكين الاقتصادي للنساء ومواصلة مكافحة الإقصاء… » مع بعض القرارت، مثل « التحكم في التوازنات المالية العمومية وخفض عجز الموازنة، والتحكم في النفقات الجارية، وتجميد أو خفض كتلة الأجور وترشيد نفقات الدعم… »
تندرج موازنة 2025 ضمن المخطط التنموي للفترة 2023/2026، ومن المنتظر أن ترتفع من 77,8 مليار دينار (25 مليار دولار) سنة 2024 إلى نحو 79,8 مليار دينار (25,7 مليار دولار) سنة 2025، وتم تصميم الميزانية على أساس رفع حجم إيرادات الضرائب وخفض دعم الطاقة الغذاء والسلع والخدمات الأساسية، من 11,3 مليار دينار (3,6 مليار دولار) إلى 10,5 مليار دينار (3,3 مليار دولار)، في إطار ما يُسمّى « ترشيد النّفقات » بلغة صندوق النقد الدّولي، ورفضت الحكومة تطبيق اتفاقيات وقّعتها حكومات سابقة مع الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) كما ترفض الحكومة انطلاق مفاوضات اجتماعية جديدة لزيادة الأجور التي انخفضت قيمتها الحقيقية بفعل ارتفاع أسعار إيجار السكن والطاقة والسلع الغذائية والأدوية وغيرها،
جرى إعداد موازنة 2025، وسط مناخ اقتصادي رديء بفعل شح الإستثمارات وانخفاض نسبة النمو وارتفاع نسبة التضخم واستمرار الظروف المناخية غير المواتية لقطاع الفلاحة ( الجفاف المستمر منذ مواسم عديدة)، ويدّعي الإعلام الحكومي « العمل على مقاومة الفقر وضمان الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية لجميع الفئات من دون استثناء، واعتماد سياسة اجتماعية قوامها تكريس مبدأ تكافؤ الفرص وضمان العدالة الاجتماعية والإحاطة بالفئات الوسطى ومحدودة الدخل ودعم القدرة الشرائية للمواطن وتعزيز التمكين الاقتصادي للفئات محدودة الدخل والفقيرة… »، لكن هذه التصريحات الجوفاء تندرج في باب الدّعاية، لأن هذه « النّوايا » تتعارض مع أبواب الميزانية، ومع تأكيد سياسة التّقشّف وخفض الإنفاق الحكومي تحت مُسمّى « ترشيد الإنفاق »، فضلا عن قرارات تجميد أو خفض حجم الرواتب وعدد الموظفين في القطاع العام، وانسداد آفاق التشغيل الخ.
الفقر
ارتفع عدد الفقراء بتونس سنة 2022، وقَدّرت وزارة الشؤون الإجتماعية عددهم بنحو 963 ألف عائلة أي ما يعادل 4 ملايين تونسي، ولذلك تَضَمّن مشروع ميزانية 2024 الذي قدمته وزارة المالية منذ شهر آب/أغسطس 2023 زيادة عدد العائلات المنتفعة بمنحة تعويض الدّخل المحدود بنحو ألف عائلة إضافية وزيادة قيمة هذه المنحة لتبلغ 220 دينار شهريا أو حوالي 73,3 دولارا شهريا، وكان توسّع رقعة الفقر من العوامل التي جعلت الحكومة التونسية تُعلن مواصلة دعم للمواد الأساسية مع العمل على مقاومة المضاربة بالمواد الأساسية والمحروقات والكهرباء سنة 2024، سنة الإنتخابات الرئاسية، وقد تلجأ الحكومة إلى توريد المحروقات والسلع الغذائية ما يزيد من عجز الميزان التجاري، وإلى توفير الموارد عبر فَرْضِ زيادة الضرائب غير المباشرة (19% حالياً ) وخصوصًا الضرائب على شراء الدّخان والكُحول وبعض التجهيزات مثل السيارات وعلى المعاملات الإدارية والمالية وزيادة الأداء على أرباح الشركات الخ، وهو ما يحذّر منه صندوق النقد الدّولي الذي يعتبر إن الضرائب على أرباح الشركات (والقطاع الخاص كالأطباء والمحامين والصيادلة ومكاتب الإستشارات والمُحاسبة) « تَضُرُّ بيئة الأعمال وتُبْعِدُ الإستثمارات المحلية والأجنبية »…
يُهدّد الفقر مستقبل الشباب والأطفال، ففي تونس « يغادر المدرسة مائة ألف تلميذ سنوياً نصفهم لا يتمُّ مرحلة التعليم الأساسي »، وفق أُطْرُوحة الدّكتور بسّام عبيدة بعنوان « التسرب المدرس في المرحلة الإعدادية بتونس » – آذار/مارس 2021، وتُشير دراسات أخرى إلى وجود أكثر من مليون مراهق خارج المدارس التونسية، شكلوا فئة « هشة يصعب دمجها في المجتمع مهنياً »
ازدهار القطاع المالي والمصرفي
كشف التقرير المالي الخاص بالمصرف المركزي التونسي عن تحقيق أرباح صافية بقيمة 145 مليون دولار سنة 2021، وارتفعت إلى ما يعادل 230 مليون دولارا، خلال سنة 2022، أما مصدر هذه الأرباح – في ظل الأزمات المستمرة التي تُعانيها الحكومات المتعاقبة – فهي نتيجة لعمليات إعادة تمويل المصرف المركزي للمصارف المحلية التي تقترض منها الدّولة في شكل سندات خزانة أو قروض مُجَمَّعَة، وهو ما حصل في لبنان حيث أَثْرت المصارف على حساب الدّولة، فضلا عن عمليات تدخّل المصرف المركزي في شكل تسهيلات القروض بين المصارف ( إعادة التّمويل) لمدة تتراوح بين 24 ساعة وأسبوع، كما ارتفعت أرباح المصرف المركزي التونسي من خلال التدخّل في السّوق النّقدية وضخ السيولة للمنظومة المالية، كما مَثَّلَ رَفْعُ نسبة الفائدة الرئيسة إلى أكثر من 8% عاملا هامًّا في ارتفاع موارد المصرف المركزي سنة 2022 حيث يُؤَدِّي ارتفاع نسبة الفائدة الرئيسة إلى ارتفاع موارد المصرف المركزي، وارتفاع موارد المصارف التي تُقْرِضُ الدّولة من مدخرات زبائنها وودائعها أو من الإقتراض المُيَسّر من المصرف المركزي فقد ارتفعت حصة الأقساط التي سدّدتها الدّولة للمصارف من 116 مليون دولارا سنة 2021 إلى 131 مليون دولارا سنة 2022، وهي مبالغ يُسدّدها المواطن التونسي من الضرائب على الدّخل ( الضرائب المباشرة التي لا يُسدّدها سوى الأُجَراء، فيما يتهرب أرباب العمل والأثرياء من تسديدها) والضريبة غير المباشرة، على السلع والخدمات ونسبتها 19% حاليا، وكانت الحكومة التونسية قد وقّعت اتفاقية لتعبئة قَرْضٍ مُجَمّعٍ من قِبَلِ 12 مؤسسة مالية محلية بقيمة تعادل 130 مليون دولارا في بداية سنة 2023، كما لجأت الحكومة إلى الاقتراض بالعملات الأجنبية من السوق النقدية المحلية بسبب عدم قدرتها على الإقتراض من السوق المالية الدّولية، ويبلغ مجموع ودائع المصارف التونسية بالعملة الأجنبية لدى المصرف المركزي ثمانية مليارات دينار أو ما يعادل 2,85 مليار دولارا، يمكن للحكومة الإقتراض منها بفائدة أعلى من فائدة الودائع لدى المصرف المركزي…
السيادة الغذائية
لا يمكن الحديث عن الإستقلال والسيادة الوطنية دون إنجاز السيادة الغذائية التي تعني القُدْرة على إنتاج السّلع الغذائية الأساسية وتوفيرها للمواطنين بأسعار تتناسب مع الدّخل ( ووجب تضييق الفوارق الموجودة حاليا )، غير إن الحكومات المتعاقبة، منذ أكثر من خمسة عُقُود أهملت قطاع الفلاحة، وشجّعت الزراعات الكُبْرى التي تستنزف الأرض والمياه والموارد الطبيعية لإنتاج سلع مُعَدّة للتصدير وتلبية حاجة المُستهلكين الأوروبيين، قبل أن يُؤَدِّي الجفاف إلى انحسار منسوب الأمطار ومياه السّدود وشح المياه وعدم توفر أعلاف الحيوانات (المواشي والدّواجن)، علاوة على تراجع مساحات الفلاحة المَرْوِيّة، وقدّر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، انخفاض الموارد المائية التقليدية في تونس بنحو 28% بحلول سنة 2030، وتراجع مساحات الأشجار المثمرة بنسبة 50% مع نهاية القرن الواحد والعشرين، وتراجع مساحة الزراعات الكبرى بنسبة 30% بحلول سنة 2030، كما أكدت دراسة أنجزتها وزارة البيئة سنة 2021 « إن تونس مهددة بفقدان مواردها الطبيعية، مع نقص حاد في محاصيل الحبوب، بسبب الجفاف، وتراجع المساحات المزروعة بـ800 ألف هكتار، بحلول سنة 2030″، وإذا لم تبحث الحكومة الحالية والتي سوف تليها، مع المواطنين والمجموعات المُنَظَّمَة (أحزاب ونقابات وجمعيات…) برامج وخطط للتوعية وإجراءات عملية لتفادي تداعيات وخطورة التغيرات المناخية خطورة فإن الحديث عن السيادة الغذائية يُصبح لاغيًا، فنحن مُطالَبُون بالحفاظ على التوازنات البيئية وعلى الحد الأدنى من الموارد الطبيعية للأجيال القادمة
العلاقات الخارجية:
بعد أكثر من سنَتَيْن من التفاوض مع صندوق النقد الدّولي، فشلت الحكومة التونسية في الحصول على قرض، قد يَفْتَحُ الباب لقروض أُخْرى بنسب فائدة أقل بكثير من السوق المالية الدّولية، لأن حكومة تونس لا ترفض مبدأ خصخصة القطاع العام أو إلغاء الدّعم أو تجميد التوظيف والإنفاق الحكومي، ولكنها ترفض النّسق الذي يفرضه الدّائنون، ولما وصلت المفاوضات إلى طريق مَسْدُود، لجأت الحكومة إلى الإقتراض من المصارف المحلية ( أكثر القطاعات ربحية خلال ثلاث سنوات، بأرباح بلغت 13% على أساس سنوي) وكذلك إلى عقد شراكات مع روسيا والصين كمناورة من السلطات التونسية تجاه أوروبا، فيما تعتبر الصين هذا التّوجُّه خُطوةً مُكَمِّلَة لتواجدها في الجزائر والمغرب. أما الوقائع فتُظْهِرُ تَوَجُّهَ أكثر من 70% من الصادرات التونسية نحو أوروبا المجاورة ولا تتجاوز نسبة الصادرات إلى الصين 1% لذا يعسر على تونس حاليا – أو حتى خلال السنوات القليلة القادمة – أن تتخلص من هيمنة الإتحاد الأوروبي الذي يُعبِّرُ مسؤولوه عن الإنزعاج من توجُّه أي شريك نحو الشرق، لكن قد تكون هذه الخطوات التونسية الصّغيرة مُجَرّد مناورةٍ أو ضرورةٍ فرضتها الأزمةُ الماليّةُ للبلاد، وتندَرِجُ ضمن الرسائل التي يُوجّهُها الرئيس قيْس سعَيِّد إلى الإتحاد الأوروبي كَرَدٍّ على الإنتقادات الأمريكية والأوروبية بشأن وضع الحُرّيات الفردية في تونس، كذريعة لعرقلة حصول الحكومة التونسية على قَرْضٍ بقيمة 1,9 مليار دولارا، مع التّذكير إن الإتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأول لتونس ويرتبط الطَّرَفَان باتفاقيات اقتصادية وتجارية مُكبِّلَة لتونس، مثل اتفاقية الشراكة الشاملة (أليكا) التي تُثِير قلق العديد من الأحزاب والمنظمات والنّقابات في تونس، كما تُشير الوقائع إلى ضُعْف الإستثمارات الروسية والصينية في تونس – رغم ارتفاع العجز التجاري التونسي مع روسيا والصين – مُقارنة باستثمارات شركات أوروبا ( خصوصًا فرنسا وإيطاليا وألمانيا) …
من جهة أخرى، قام الرئيس قيس سعيد خلال شهر أيار 2024 بزيارة إلى إيران، للمشاركة في تشييع الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، تُوّجت بإعلان تأشيرة دخول المواطنين الإيرانيين إلى تونس، وفي نهاية مايو/أيار 2024 سافر سعيد إلى الصين للمشاركة في أعمال منتدى التعاون الصيني العربي، وتكللت زيارته بإبرام اتفاقيات اقتصادية في قطاعات متعددة، وصَرّح الرئيس التونسي إن تايوان جزء من الصين، كما قطعت تونس خطوات للتقارب مع روسيا التي زار وزيرها للخارجية تونس بنهاية سنة 2023، وأثارت هذه التحولات والتّوجهات التونسية نحو الشرق بعض القلق لدى مسؤولي الإتحاد الأوروبي، من ضمنهم « جوزيف بوريل » مُفَوّض العلاقات الخارجية الأوروبية
خطاب السيادة يفتقر إلى وقائع مادّيّة
تتعارض السيادة مع الإتفاقيات التي وقعتها الدولة التونسية مع الإتحاد الأوروبي بشأن « مكافحة الهجرة غير النّظامية من إفريقيا إلى أوروبا »، فأي سيادة للدولة التونسية إذا كانت جزءًا من حدود أوروبا وساحة لقمع وسجنًا للفقراء الذين يُحاولون الخروج من تونس باتجاه أوروبا، فالدّولة التونسية « تَخَلّتْ عن بعض مقومات سيادتها »، فالخطاب السياسي الحالي يستخدم مفهوم السيادة الوطنية، لتغطية عجز الدّولة على ضمان السيادة على أراضيها وعلى أمن المواطنين الغذائي والصحي، فالدولة تستورد حوالي 80% من حاجاتها من الحبوب ومن علف الحيوانات، وهي لا تستطيع تأمين الحبوب والخضر والغلال والطاقة والرعاية الصحية والأدوية والعمل والسكن والنقل في ظروف مريحة… . وما زال الاقتصاد التونسي، منذ تدشين عهد السياسات الليبرالية من قِبَل حكومة الهادي نويرة ( من 1970 إلى 1980) ، قائماً على القطاعات الهامشية والهشة التي تُعَمِّق التّبعية كالسياحة والإنتاج الزراعي الموجه للتصدير والتي تستنزف التُّربة والموارد المائية وتصدير المواد الخام…
تغيير نمط التنمية
يتطلب ملف الدين الخارجي الذي يثقل كاهل الأجيال القادمة حواراً واسعا داخل المجتمع، بدل الإستمرار في نهج الاقتراض الخارجي وتهديد مستقبل الأجيال القادمة، فلا معنى لمفهوم السيادة، عندما يكون اقتصاد البلاد تابعًا لرأس المال الأجنبي ولا معنى للسيادة الغذائية إذا كانت البلاد تستورد الغذاء، فهل يستقيم الحديث عن السيادة الوطنية في ظل الإرتهان المالي والإقتصادي (وبالتالي ارتهان القرار السياسي) إلى المؤسسات المالية الدّولية ونادي باريس وغيرهما، وما حدود السيادة وأدوات تحقيقها؟
يمكن الخروج من الحلقة المُفرغة للتداين المستمر واستيراد الضروريات كالطاقة والغذاء والدّواء، بانتهاج نمط تنمية بديل يعتمد على تجنيد الموارد الدّاخلية واستغلالها في الإستثمار في قطاعات منتجة كالفلاحة والصيد البحري وتوليد الطاقة من الرياح والشمس، واستغلال قُدرات البحث والإبتكار للقضاء على الفقر الذي فاقت نسبته 17% وعلى البطالة التي قُدّرت نسبتها ب 18% وعلى هجرة الكفاءات وذوي الخبرات من الأطباء والمهندسين والفَنِّيِّين وغيرهم…
تُظْهِرُ الأرقام الواردة في قانون المالية لسنة 2024 إن الدّيون التي يحل أجل تسديدها تبلغ 3,9 مليار دولارا ( 12,3 مليار دينار) ودأبت كل الحكومات السابقة والحالية على الإقتراض لتسديد الدّيون القديمة، ولذلك تُظهر الأرقام ارتفاع حجم الإقتراض الدّاخلي والخارجي من حوالي 22 مليار دينار سنة 2023 إلى حوالي 28,2 مليار دينار سنة 2024، دُون ذِكْرِ مصادر الإقتراض الخارجي، وعمومًا تُشكل الدّيون خطرًا كبيرًا على الدّولة ومواطنيها ومواردها، في ظل غياب أي برنامج حكومي بديل، فالدّولة تُواصل تقليص دور الدّولة – باستثناء الأمن – وخفض الإنفاق وخصخصة مؤسسات القطاع العام وخفض الضرائب على المصارف والشركات والأثرياء وإعفائهم من الرّسُوم مما يزيد من ثروة الأثرياء، في مقابل زيادة الفقر والبطالة إلى درجة تجعل شبانا في مقتبل العمر يغامرون بحياتهم بحثًا عن عمل وعن ظروف حياة أفْضَلَ…
قُدّرت قيمة التّهرب الضريبي بنحو 25 مليار دينارًا سنويًّا، وبدل العمل على تشديد الخناق على المُهَرِّبين – وهم قطعًا من الأثرياء ومن الشركات الكبيرة – تمنحهم الحكومة، من خلال الميزانية السنوية امتيازات جبائية، أي خفض الضرائب الذي يُؤَدِّي إلى خفض إيرادات الدّولة وإثقال كاهل الأُجَراء والفُقراء، عبر زيادة الضرائب على الدّخل وزيادة الضرائب غير المباشرة ( الضريبة على القيمة المُضافة أو ضريبة الإستهلاك)، فيما يُسدّد المواطنون قيمة الدُّيُون التي استفاد منها هؤلاء الأثرياء، ولذا من الضروري المُطالبة بإقرار الضريبة التّصاعدية، والمطالبة كذلك بإلغاء الدّيُون المُكبّلة بفعل الشّروط المجحفة التي ترافقها وبفعل التّدخّل المُستمر للدّائنين في الشؤون الدّاخلية للبلدان المُقترِضَة…
تونس – عن الأوضاع بعد 2010 – الجزء الثالث والأخير – من عوامل انتفاء السيادة: العلاقات العسكرية الأمريكية التونسية والدّيون الخارجية : الطاهر المعز
مقدّمة
بعد نَقْد خطاب « السيادة » (بفعل الإفتقار إلى مقومات السيادة) من خلال عدد من الأمثلة والأرقام، اعتمادًا على البيانات الرسمية وعلى وسائل الإعلام المسموح بتداولها في تونس، يُخصّص هذا الجزء الأخير حيزا هاما للعلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وتونس بعد انتفاضة 2010 – 2011، وهو مثال آخر على عدم استناد خطاب السيادة على دعائم مادّية صَلْبَة، بل هو مجرد خطاب أو إعلان نوايا، لا تتبعها إجراءات عَمَلِيّة، إضافةً إلى فقرات أخرى بعنوان » الدّور السّلبي للدّيون » وخاتمة تتضمن بعض المُقترحات للبدائل المحتملة، فضلا عن ضرورة تغيير نمط التنمية، كما ورد في الفقرة الأخيرة للجزء الثاني من هذه الدّراسة.
تُنْشَرُ هذه الأجزاء الثلاثة من الدّراسة بمناسبة الإنتخابات الرئاسية التي جرت يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024، حيث كانت المشاركة ضعيفة وفق البيانات الرسمية، ولا تكتسب نتائج هذه الإنتخابات أية أهمّية بفعل المناخ السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وبفعل ما حصل ويحصل من الأحداث والإجراءات والقرارات الرئاسية، منذ 2021، وخصوصًا استمرار تدهور الوضع المعيشي لمعظم المواطنين وارتفاع حجم البطالة والفقر، وكذلك بفعل تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها في النزاعات الإنتخابية وحل المجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء الضّوابط القانونية وأجهزة الرقابة المُؤسّسية، وفصل عشرات الموظفين، من بينهم قُضاة، واعتقال سياسيين مُعارضين وإعلاميين، باسم محاربة الفساد…
جرت هذه الإنتخابات في مناخ اتّسم بعدم الإهتمام وبضُعف المُشاركة، لافتقادها إلى أي رهان، بفعل عدم وجود مقترحات أو برامج قد تُغَيِّر الوضع الرديء الذي يعيشه معظم المواطنين، من شُحّ السلع المدعومة وارتفاع أسعارها، وانقطاع الكهرباء والمياه، وبسبب استمرار الفساد والرّشوة، وتدهْوَرَ الوضع المالي للدّولة التي أصبحت قواتها المسلّحة تحرس حدود الإتحاد الأوروبي، مقابل بعض الفتات، لِمَنْع تدفُّق فُقراء إفريقيا وعُبُور تونس، بحثًا عن عمل في أوروبا.
تناول الجزء الأول والثاني الوضع العام، وخصوصًا الوضع الإقتصادي ومدى ما تحقق أو لم يتحقق من مطالب انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2010 والإنتفاضات التي سبقتها، من « انتفاضة الخُبْز » بنهاية 1983 وبداية 1984 إلى سيدي بوزيد 2010، مرورًا بانتفاضات الحوض المنجمي وبنقردان وغيرها، مع إعادة التّأكيد على الدّيون الخارجية كأحد عوامل انتفاء السيادة، أو الحدّ منها، وكانت الدّيون الخارجية من الأسباب التي أدّت إلى احتلال تونس سنة 1881…
أي مُقَوّمات للسيادة؟
التعاون العسكري الأمريكي/التونسي
تعتبر الولايات المتحدة منطقة المغرب العربي منطقة استراتيجية نظرا لموقعها الجغرافي وثروة باطنها، وخاصة الجزائر وليبيا. أما بالنسبة لليبيا، فقد تم تقاسم الغنائم بين الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وبالنسبة للجزائر، يجب على الولايات المتحدة أن تُراعي مصالح فرنسا وروسيا والصين التي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، المستورد الثاني للنفط والغاز والتي ستصبح قريبا القوة الاقتصادية الأولى… ولهذه الأسباب، تسعى الولايات المتحدة إلى إبطاء توسع الصين.
بقيت تونس وهي الحلقة الأَضْعَف، حيث لا تمتلك ثروات نفطية مثل ليبيا والجزائر، فضلا عن ضيق مساحتها المَحْشُورة بين جارَيْن كبيرَيْن، وتعود العلاقات بين الجيشين التونسي والأمريكي إلى فترة الحرب الباردة، حيث كان النظام التونسي مُعاديا للشيوعية وللقومية العربية ولكل ما هو تقدّمي، ولم يلعب للجيش دور بارز في الحياة السياسية، مقارنة بالأنظمة المجاورة (الجزائر وليبيا) أو مصر وسوريا والعراق، واعتمد النظام التونسي على الشرطة والدّرك لقمع الشعب، لكن الجيش شارك في القمع وفتح النار على المُضربين والمتظاهرين في « الوَرْدانين » ( كانون الثاني/يناير 1969) وخلال إضراب قَصْر هلال ( 1977) وخلال الإضراب العام (26 كانون الثاني/يناير 1978) وانتفاضة 1983/1984 وانتفاضة 2010/2011، وعندما أمر قيس سعيد بحل البرلمان وبإغلاقه، تكفّل الجيش بإغلاق المدخل بالدّبّابات، ويستخدم نظامُ الحكمِ القضاءَ العسكريَّ، منذ عُقود ( بالأمس كما اليوم)، لمحاكمة خُصومه السياسيين، ومع ذلك بقي دور الجيش هامشيا في تسيير شؤون الدّولة، وبقيت العلاقات العسكرية متطورة مع الولايات المتحدة التي ركّزت، خصوصًا منذ الإنتفاضة، على التدريب العسكري وعلى « مكافحة الإرهاب وتأمين الحُدُود »، غير إن العلاقات العسكرية قديمة، ويُشارك الجيش التونسي سنويا في مناورات « واييومنغ » مع الحرس الوطني الأمريكي مع جيوش 95 دولة، وتتمثل المناورات في التدريب المشترك، بهدف « الحفاظ على الروح المعنوية » وعلى الولاء للولايات المتحدة…
ارتفع الإنفاق العسكري التونسي من 572 مليون دولار سنة 2010 إلى مليار دولار سنة 2016، وتَوَثّقت العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع ارتفاع التمويلات الأمريكية « للمجتمع المدني » في تونس، وتم تصنيف تونس، سنة 2015، كحليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويعني هذا التّصنيف حصول الجيش التونسي على أسلحة وأنظمة تدريب أمريكية متفوقة، واستغلّت الولايات المتحدة ظهور المجموعات الإرهابية في تونس ( التي تنحدر جميعها من تيار الإخوان المسلمين)، لتكثيف التعاون الذي تجسّد سنة 2017 في مُشاركة قوات البحرية الأمريكية مع الجيش التونسي في عمليات ضد مجموعة مُصنّفة كَفَرْع من « القاعدة » على الحدود التونسية الجزائرية، ويُمثل ذلك جزءًا من الإستراتيجية الأمريكية للتغلغل في شمال إفريقيا والمنطقة المُحيطة بالصّحراء الكُبرى، والتي كانت ذروتها الإطاحة بالنظام في ليبيا وحَلّ أجهزة الدّولة والجيش وفتح الثّكنات لتتزوّد منها المجموعات الإرهابية التي كثفت نشاطها فكان ذلك ذريعة لتكثيف التواجد العسكري الأمريكي في إفريقيا، ضمن برنامج « أفريكوم » ( القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، منذ 2007) أو ضمن التعاون العسكري الثنائي، ما جعل تونس والمغرب وموريتانيا وغيرها أدوات تستخدمها الولايات المتحدة لإضعاف الإمبريالية الفرنسية ولمكافحة التّواجد الرّوسي والصّيني، وأدّى تصنيف تونس ( وكذلك المغرب) « حليفًا رئيسيا من خارج حلف شمال الأطلسي » إلى مُشاركة الجيش التونسي في تدريب جيوش أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وشارك الجيش التونسي في برنامج مناورات » فلينتلوك » العسكرية بقيادة الولايات المتحدة، مع جيوش غانا وساحل العاج والسنغال وجيبوتي والمغرب تحت شعار » على مكافحة الإرهاب » ( آذار/مارس 2023)، وتقرّر استضافة تونس برنامج المناورات الأمريكية « أسد إفريقيا » للتدريبات العسكرية، صيف 2024…
يُشارك الجيش التونسي، منذ سنة 2004، في مناورات « وايومنغ » وهي شراكة في إطار برنامج فدرالي يربط الجيوش الأجنبية بوحدات الحرس الوطني للدولة الإتحادية الأمريكية ويتدرب الجيش التونسي بسلاح أمريكي، ومن بينها مروحيات بلاك هوك وطائرات النقل سي-130، وأرسَل الحرس الوطني الأمريكي في وايومنغ، سنة 2022، ضباط صف إلى تونس للمشاركة في ورشة عمل، « بهدف تحسين قدرة الجيش التونس على الاستجابة السريعة واتخاذ القرارات بسرعة »، أي تحسين القدرة القتالية والفعالية للجيش التونسي، وهي خطوة نحو تحويله إلى جيش محترف، كما ساهم فريق من الحرس الوطني الأمريكي ( من وايمنغ) خلال شهر أيار/مايو 2023، في بناء ميادين إطلاق نار وموقع تدريب على مكافحة العبوات الناسفة في تونس، وشاركت القوات التونسية في مناورات عسكرية نظمتها القيادة الشمالية الأمريكية في وايومنغ (حزيران/يونيو 2023)…
رغم تكثيف الشّراكة العسكرية، أدّت تقارير المنظمات الأمريكية « غير الحكومية » عن وضع الحُرّيّات في تونس إلى تخفيض الولايات المتحدة « الدّعم الإقتصادي » الذي تُقدّمه وزارة الخارجية الأمريكية إلى تونس، سنة 2024، بنسبة 70% من 45 مليون دولار إلى 14,5 مليون دولار، وانخفضت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى تونس منذ 2022، باستثناء برنامج التمويل العسكري الخارجي (FMF)، وهي أموال لشراء الجيش التونسي أسلحة أمريكية، ورغم بعض الإنتقادات الأمريكية، يُشارك الجيش التونسي في أهم اللقاءات، وومن بينها مشاركة ضُبّاط رفيعي المستوى في اجتماع رفيع المستوى لمسؤولي الدفاع الأفارقة استضافته الولايات المتحدة في روما، كما يشارك الجيش التونسي في الذّكرى الثلاثين لبرنامج شراكة الحرس الوطني 1994 – 2024 التي يستضيفها البنتاغون خلال سنة 2024…
يُعْتَبَرُ الوجود العسكري الأمريكي في تونس، بعد الإنتفاضة، متحفظا بقدر ما هو استراتيجي، حيث تسبّب تَسَرّب خبر وجود قاعدة لإطلاق الطائرات بدون طيار، أو مركز أمريكي للإستعلامات في جنوب تونس في انتشار الكثير من الإشاعات، منذ العام 2017، نَفَت السلطات التونسية، على لسان رئيسها الباجي قائد السبسي ذلك جملة وتفصيلا، لكن وسائل الإعلام الأمريكية تؤكد ذلك، وأقَرَّ الباجي قائد السبسي باستخدام طائرات بدون طيار كجزء من مهام تدريب القوات المسلحة التونسية من قِبَلِ « 70 جندي أمريكي »، وأعلن الناطق باسم وزارة الدفاع التونسية آنذاك بلحسن الوسلاتي 3إن مهمة الطائرات بدون طيار هي المُراقبة وليست الهجوم »، ووفقا لصحيفة واشنطن بوست نقلا عن مصدر حكومي أمريكي، فإن « هذه الطائرات بدون طيار غير المسلحة التي استخدمها ما يقرب من 70 عسكريّا أمريكيا تم نشرها في تونس بنهاية حزيران/يونيو 2016، بموافقة الحكومة التونسية، من أجل مساعدة القوات الليبية الموالية لأمريكا في قتالها ضد قوات داعش في ليبيا »، في مدينة سرت… تُستخْدَمُ هذه الطائرات لمراقبة الحدود التونسية الليبية ومواقع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”، بحسب وكالة أنباء إفريقيا ( Africa News Agency ) 12 شباط/فبراير 2018، ووقَّعت تونس، نهاية أيلول/سبتمبر 2020، خلال زيارة وزير الحرب الأميركي مارك إسبر، اتفاقية تعاون عسكري مع الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات، واعتبرها « البنتاغون » تجسيدًا للتقارب وللتعامل مع تدهور الوضع الأمني في ليبيا، واقترنت هذه الزيارات والإتفاقيات بزيادة الدّعم الأمريكي للجيش التونسي، لا سيما في مجالات التدريب والتجهيز « لمكافحة الإرهاب ولتعزيز الأمن على الحدود مع ليبيا »، وبذلك أصبحت تونس (منذ 2015) « حليفًا “رئيسيًا (لأمريكا) في المنطقة، وكانت تونس بمثابة الداعم المكَتِّم ولكنه الحاسم في تطورات الوضع في ليبيا »، وفقًا للسيد مارك إسبر، وزير الحرب الأمريكي، الذي أعلن أيضًا: “يسعدنا تعميق هذه العلاقة من أجل مساعدة تونس على حماية موانئها وحدودها ودعمها ضد الإرهاب، وكذلك لمواجهة منافسينا الاستراتيجيين الصين وروسيا »، وأدْلى بهذا التصريح بعد لقائه بالرئيس التونسي قيس سعيد (نهاية أيلول/سبتمبر 2020).
يُجْرِي جيشا الولايات المتحدة وتونس تدريبات عسكرية مشتركة بانتظام. واستثمرت الولايات المتحدة مليار دولار في الجيش التونسي بين سَنَتَيْ 2011 و2020، بحسب وزارة الحرب الأمريكية، ولكن نفت السلطات مرارا وجود قواعد أمريكية في تونس، بسبب المُعارضة الشعبية للإمبريالية الأمريكية، لكن تم تأكيد وجود فريق عسكري أمريكي مسؤول عن تشغيل طائرات بدون طيار داخل قاعدة تونسية في مدينة بنزرت، وذلك خلال محاكمة عسكرية سنة 2017 في الولايات المتحدة، بحسب الصحافة الأميركية المتخصصة. من جانبه، رحب وزير الدفاع التونسي بـ”الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لتونس في مجال أمن الحدود وإنشاء نظام مراقبة إلكتروني في الجنوب الشرقي والغرب وتعزيز قُدرات الجيش التونسي”، وأعلن « إن الولايات المتحدة شريك مميز لتونس ».
قامت مساعدة وزير الحرب الأمريكي للشؤون الإفريقية، جينيفر زاكيسكي، بزيارة إلى تونس على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، لتحضير الدورة السادسة والثلاثين للجنة العسكرية التونسية الأمريكية المشتركة، وفق مُلخّص محضر اللقاء الذي نشرته وزارة الدفاع التونسية، يوم الاثنين 12 شباط/فبراير 2024، والذي يُشيد « بالعلاقات القوية بين تونس والولايات المتحدة »، ومُرحّبًا » بالنتائج التي تم التوصل إليها في ختام الاجتماع السنوي لاستعراض الأنشطة والتمارين العسكرية المشتركة »، وانعقد اللقاء يوم التاسع من شباط/فبراير 2024 بين جينيفر زكريسكي والوزير التونسي عماد مميش، واختتم بالموافقة على سلسلة من التحديثات والأنشطة المخطط لها بين الطرفين للفترة المقبلة، بينما أشارت مساعدة وزير الحرب الأمريكي للشؤون الإفريقية، جينيفر زاكيسكي إلى أن « هذا اللقاء شكل فرصة لتقييم العلاقات العسكرية المتينة بين البلدين، والدّعم الأمريكي المستمر لتونس في تطوير القدرات العملياتية للمؤسسة العسكرية وفي مجال التكوين وتبادل الخبرات والمساعدة التقنية وتوفير المعدات الملائمة للتهديدات غير التقليدية وحماية الحدود… »، وانعقدت الدورة السادسة والثلاثون للجنة العسكرية المشتركة التونسية الأمريكية بتونس (23 و24 أيار/مايو 2024)، برئاسة وزير الدفاع التونسي عماد مميش ونائبة وزير الحرب الأمريكي سيليست فالاندر بهدف « تعزيز التعاون الاستراتيجي والقدرات العملياتية وتبادل الخبرات في مجالات التدريب العسكري والتكنولوجي… للمساهمة في تعزيز السلام والاستقرار والأمن الإقليمي في المنطقة… »
إن الولايات المتحدة التي تدّعي « مساعدة تونس في الحرب ضد الإرهاب » هي نفسها التي دعمت المجموعات الإرهابية في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وهي نفسها التي تدعم إرهاب الكيان الصهيوني دعمًا مُطْلَقًا وبلا حُدُود
أكّدت العديد من وسائل الإعلام الأمريكية، وجود قاعدة عسكرية لتشغيل الطائرات بدون طيار في بنزرت، وقاعدة استخبارات ومراقبة في الجنوب، قريبًا من الحدود مع الجزائر وليبيا، لكن الموضوع حساس للغاية، ولذلك رفضت السّلطات التّونسية تأكيد هذه المعلومات، بل نَفَتْها من أساسها، رغم تأكيد وجود ما لا يقل عن سبعين مستشار ومُدرّب عسكرِي أمريكي، في الثكنات لتدريب العسكريين التونسيين على التعامل مع المعدات العسكرية وإدارة الطائرات بدون طيار، وأكّد موقع شركة Gray Dynamics ( 07 آب/أغسطس 2020) وهي متخصصة في الذكاء الإصطناعي، ذي الإستخدام المُشترك (مدني وعسكري)، أي إنها شركة استخبارات « ناعمة » أو « سوفت »: « رغم إنكار السلطات التونسية والغموض الاستراتيجي للسلطات الأمريكية، فإن تونس تستضيف قاعدة طائرات بدون طيار، وفريقا من القوات الخاصة للبحرية الأمريكية، منذ سنة 2016، التي تستخدم البلاد للعمل في جميع أنحاء شمال إفريقيا، وإن أسبابًا سياسية تدفع الحكومة التونسية إلى عدم الإعتراف بالوجود العسكري الأمريكي داخل حدودها… إن تونس تستضيف أكبر قاعدة أمريكية لتنفيذ مهام الطائرات بدون طيار في شمال إفريقيا انطلاقًا من قاعدة سيدي أحمد الجوية ببنزرت في شمال تونس… وتزعم الولايات المتحدة وتونس أن الطائرات بدون طيار ليست مسلحة وأنها تقوم فقط بالاستطلاع لغرض تأمين الحدود والتعاون والتدريب مع القوات التونسية… « ، سواء من خلال القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) أو من خلال العلاقات المباشرة بين الجَيْشَيْن
أعلنت صحيفة واشنطن بوست اليومية الأمريكية، منذ تشرين الأول/اكتوبر 2016، « قامت وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) بتوسيع الشبكة الأمريكية لقواعد الطائرات بدون طيار في شمال إفريقيا، من خلال نشر طائرات بدون طيار وأفراد عسكريين أمريكيين في قاعدة في تونس للقيام بمهام تجسسية في ليبيا… لعبت هذه الطائرات بدون طيار دورا رئيسيا في الهجوم الجوي الأمريكي على معقل تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا ».
راجت معلومات (شائعات؟) متعلقة بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية مزعومة في رمادة بجنوب البلاد، عقب مناقشات بين الجنرال ديفيد إم رودريغيز، رئيس أفريكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا) ورئيس الحكومة التونسية (علي العرَيِّض آنذاك، سنة 2013)، ونَفَت وزارة الدّفاع التونسية الخبر من أساسه، لكن النفي الرسمي لهذه الادعاءات ترافق مع تعزيز العلاقات بين تونس والولايات المتحدة وزيادة نشاط أفريكوم في تونس، وأكّدت المقابلة الهاتفية التي جرت يوم الخميس 28 أيار/مايو 2020، بين وزير الدفاع التُّونسي عماد الحزقي ورئيس القيادة العسكريةالأمريكية في إفريقيا ستيفن تاونسند، « تعزيز التعاون العسكري بين تونس والولايات المتحدة وإرسال لواء أمريكي إلى تونس للمساعدة الأمنية بسبب مخاوف بشأن النشاط الروسي في ليبيا »، بحسب وكالة رويترز للأنباء (28 أيار/مايو 2020) وقبل ذلك بحوالي سنتيْن ونصف، كشفت موقع مجلة « ذا إنترست » بتاريخ الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2018، « إن الوجود العسكري الأميركي في أفريقيا أكبر بكثير مما يدعي البنتاغون »، وذكرت « إن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ما لا يقل عن 34 موقعًا عسكريا في إفريقيا، من بينها 14 قاعدة رئيسية وعشرين معسكر، وتتجه وزارة الحرب إلى إنشاء المزيد من قواعد الطائرات الآلية (بدون طيار) »
الدّور السّلبي للدّيون:
واجَهَ الإقتصاد التّونسي، منذ بداية القرن الواحد والعشرين سلسلةٌ من الصدمات الاقتصادية السلبية التي أَسْفَرَتْ عن مفاقمة التدهور المتسارع، قبل تفشّي جائحة كوفيد-19، وتميزت فترة ما بعد انتفاضة 2010- 2012 بارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وتراجع الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية، وزيادة معدّلات الفائدة العالمية، فضلا عن ارتفاع حجم الإقتصاد الموازي والبطالة والفقر والأُمِّيّة، خصوصًا في المناطق الغربية والدّاخلية (غير السّاحلية) للبلاد، ولم يتجاوز معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي 0,6% سنة 2023، وفاقمت الظروف المناخية الوضع خصوصًا في القطاع الفلاحي، حيث تراجع محصول الحبوب بنحو 80% مُقارنة بالموسم السابق…
اعتبر تقرير مؤسسنة « كارنغي » ( 26 شباط/فبراير 2024) استنادًا إلى بيانات البنك العالمي، إن أداء اقتصاد تونس لا يرقى إلى استغلال إمكانيات البلاد القادرة على رفع مستوى الإنتاجية ودعم الأنشطة ذات القيمة المُضافة المرتفعة، ودعم الأنشطة التي تُساعد على الإستغناء على العديد من الواردات واستبدالها بإنتاج مَحَلِّي، مع استغلال قُدرات التصدير إلى أسواق أُخرى غير الإتحاد الأوروبي، كما فشل الإقتصاد التونسي في زيادة دخل العاملين ( ما أدّى إلى انخفاض المُدّخرات ) أو في استحداث ما يكفي من الوظائف لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل، وخصوصًا من فئة الشباب من ذوي الكفاءات العلمية والتّقنية…
تمكّنت الدّولة خلال العقد الأول من الإنتفاضة تحقيق الحدّ الأدنى من النمو الاقتصادي من خلال القروض التي تُموّل الإنفاق العام، ومن خلال الإقتصاد الموازي، وتُعاني خزينة الدّولة، منذ سنوات، من عجز سنوي بمعدّل 4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، بين سنتَيْ 2011 و 2017 وارتفع العجز إلى 9% بين سنتيْ 2020 ( سنة جائحة كوفيد) و 2022، كما تعني من نقص السّيُولة الضّرورية لتغطية نفقاتها الأساسية كالرواتب والمعاشات التقاعدية وخدمة الدين، واضطرت إلى تأجيل المدفوعات المستحقّة للمورّدين الذي أصبحوا يُطالبون بالتسديد المسبق قبل الإفراج على شحنات السّلع المتراكمة في الموانئ، في ظل عجز الدّولة عن تمويل الإنفاق بواسطة القُروض، وفي ظل ارتفاع حجم الدّيْن العمومي من 68% سنة 2019 إلى 80% سنة 2022 ونحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2024، وتمثل الدّيون الخارجية نحو أربعين مليار دولارا، وأصبحت البلاد تواجه مخاطر العجز عن تسديد أربع مليارات دولارا من الدّيون سنة 2024 وربما سنة 2025، ويكمن الخطر في إقرار خطة تقشف وخَفْض أو إلغاء الإنفاق الإجتماعي، بفعل توجيه ميزانية الدّولة نحو تسديد خدمة الدَّيْن بدل تلبية الحاجة إلى الإنفاق على البنية التحتية وخدمات الصحة والتعليم والنقل العمومي وتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين لم يعودوا قادرين على تحمل الأسعار المُرتفعة للغذاء والدّواء والطاقة…
كان حجم المديونية يمثل نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010، وارتفعت النسبة إلى 80% سنة 2023، بسبب قُروض صندوق النقد الدّولي ( سنوات 2013 و 2016 و 2020 ) وبسبب خفض قيمة الدّينار ( وهو أحد شروط صندوق النقد الدولي) وفشلت مفاوضات القرض الرابع ب1,9 مليار دولارا، سنة 2022، بسبب اعتراض الحكومة التونسية على وتيرة « الإصلاحات » (الخصخصة وإلغاء الدّعم وتسريح الموظفين وزيادة الضرائب غير المباشرة…) واعتراض اتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل ) على الخصخصة وتسريح الموظفين…
خاتمة:
تُشكّل نسبة الدّيون من الناتج المحلي الإجمالي ( مقارنة حجم الدّيون بحجم الإقتصاد الكُلِّي) وحجم تسديد الدّيون كنسبة من الإنفاق الحكومي، بعض مقاييس خطورة الدّيون، وفي تونس، أدّى ارتفاع قيمة القروض وتكاليفها (خدمة الدَّيْن) إلى تخصيص 06% من إجمالي النفقات الحكومية لخدمة الدّيْن سنة 2016 و 13% سنة 2018 (بعد خفض قيمة الدّينار) و 41% من إجمالي النفقات سنة 2024، أو ما يُعادل قرابة 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى سبيل المثال فإن البلاد مُطالبة بتسديد أربع مليارات دولارا من خدمة الدّيْن خلال النصف الثاني من سنة 2024، وأدّى ارتفاع الدّيْن وخدمة الدَّيْن إلى ارتفاع معدّلات التضخموتعطيل الأداء الاقتصادي وعملية النّمو مما ينذر بانهيار اقتصاد البلاد، ولم تستفد فئات الكادحين والفُقراء من هذه القروض، بل حصل العكس وحصل ضرر كبير لهذه الفئات بفعل الشّروط المُصاحبة للقروض والتي تقتضي إلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب غير المباشرة وخصخصة القطاعات الحيوية وتقليص الخدمات العامة وما إلى ذلك…
تم تصميم المؤسسات المالية الدّولية، وأهمها البنك العالمي ( البنك الدّولي للتنمية وإعادة الإعمار) وصندوق النقد الدّولي والإتفاقية الدّولية للتجارة والجمارك (غات)، من قِبَل الولايات المتحدة، سنة 1944، لإعادة إعمار أوروبا التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية، وتوسّع نطاق عمل هذه المؤسسات قبل حوالي ستة عُقُود، لإدامة تَبَعِيّة الدّول حديثة الإستقلال، وإدخالها في دوامة القروض بفوائد مرتفعة لا تتمكن الدّول الفقيرة من تسديدها سوى باللجوء إلى قروض جديدة، مما يرفع حجم القروض وقيمة الفوائد، ولم يتمكّن أي بلد في العالم من تحقيق التنمية بواسطة القُروض، لأن هدف القروض يتمثل في تعميق وإدامة التّبَعِية، ورغم عدم التّوصّل إلى اتفاق مع صندوق النّقد الدّولي، تُطبّق الحكومة الحالية والسابقة، كما الحكومات المتعاقبة منذ 2011، شروط الدّائنين (صندوق النّقد الدّولي والدّائنين الآخرين مثل نادي باريس والإتحاد الأوروبي والبنك العالمي وتوابعه…) من خفض تدريجي لدعم الطاقة والغذاء والدّواء ومن تجميد التوظيف في القطاع العام وخصخصة المؤسسات العمومية وما إلى ذلك من الشروط التي طَبّقتها الحكومات التونسية المتعاقبة، خلال حكم بورقيبة أو بن علي أو من لَحِقَهُ، ولم يتم التراجع عن أي إجراء بعد انتفاضة 2011 كالخصخصة وخفض أو إلغاء دَعْم السلع والخدمات الأساسية وخفض قيمة العُملة وتجميد أو خفض عدد الموظفين في القطاع العام الخ، لذلك يصح القول إن التّغْيِير كان سطحيًّا ولم يشمل الحياة اليومية ( السّكن والنّقل والشُّغل وخدمات الكهرباء والماء والصّحّة والتعليم…) بل ساءت ظروف عيش القسم الأكبر (الأغلبية) من المواطنين وتُعتبر ظروف عيش المواطنين هي المقياس الأساسي للحكم على نظام ( ضدّه) أو له، أي لصالحه.
ما الدّاعي لدعم حكومة لا تُحاول تَيْسِير وتحسين حصول السكان – خاصة سكان الريف والنساء والأطفال – على الرعاية والخدمات الصحية الأساسية والتعليم والعمل، ومُعالجة التفاوت الطبقي المجحف ( لا نتحدّث على المُساواة) ومعالجة مشاكل البطالة والفقر وشحّ السّكن وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية؟
وجب إعادة النّظر في العلاقة بين الدّولة والمجتمع وبين الدّولة والمؤسسات الوسيطة لدفع الحوار والتّشاور بشأن السياسة والإقتصاد والديمقراطية والتنمية وقضايا البحث العلمي والسّكن والنّقل والصّحّة والتعليم وغيرها، بشكل يسمح بمشاركة الجميع في طرح المواضيع ومناقشتها وفي اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن شأن ذلك تنمية الشعور بالمواطَنَة والمُشاركة في تقرير مصير البلاد وأهلها، من أجل تحقيق التنمية المستدامة والحد من البطالة و الفقر والتفاوت في الدّخل
لا يكمن الحل في البحث عن القروض ( إلا إذا كانت قُروضًا تنموية غير مشروطة وبدون فائدة) بل في تنفيذ برامج اقتصادية (وسياسية واجتماعية ) بديلة تنطلق من حاجيات أغلبية المواطنين ومن إمكانيات البلاد، لتنفيذ برنامج اقتصادي يحقق السيادة الغذائية وتصنيع فائض الإنتاج الزراعي والمواد الأولية المتوفرة بالبلاد وزيادة الإنفاق على البحث العلمي والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية للطرقات والمباني والسكك الحديدية وتشجيع الإبتكار في المجالات التقنية التي تحقق قيمة زائدة مرتفعة، وبحث مجالات التعاون مع الجيران ومع بلدان « الجنوب »…
سوف تدعم الأغلبية الساحقة من المواطنين أي حكومة تُقرّ سياسات تستجيب لاحتياجات ومصالح هذه الأغلبية، ويمكن أن تتمثل هذه السياسات في تشجيع الإنتاج المحلي (عبر القروض المُيسّرة والمِنح والحوافز…) لتلبية حاجة السّوق الدّاخلية (خلافًا لسياسة تشجيع الصادرات) وتصنيع ما زاد عن الحاجة قبل تصديره (عدم تصدير المواد الخام)، وزيادة الإستثمار الحكومي في مجالات الفلاحة والصناعات التحويلية والبنية التحتية والمباني السّكنية والنّقل والصّحة والبحث العلمي، بدَل خصخصة هذه المجالات الحيوية ولا يكفي إلغاء دُيون دول « الجنوب » (مثل تونس) بل يجب أن يكون ذلك مرفوقًا بتوجيه استثمارات استراتيجية ( منح وتعويضات بدلاً من القُروض) في السيادة الغذائية والزراعة البيئية والطّاقات المتجددة وسياسات التصنيع ذات القيمة الزّائدة العالية، وفق صحيفة « ذا غارديان » البريطانية بتاريخ 26 شباط/فبراير 2023.
الطاهر المعز